يؤكد باحثون ان اضراب 28جانفي-4 فيفري 1957، والذي اصطلح عليه بإضراب الثمانية أيام كان نقطة تحول ووقفة مهمة في تاريخ الجزائر عامة وتاريخ الثورة الجزائرية بصفة خاصة، وذلك لما كان له من تداعيات واثار ايجابية على الثورة عموما وحبهة التحرير الوطني بوجه الخصوص.
في هذا الصدد، تقول المجاهدة زهرة ظريف بيطاط، في مذكراتها بعنوان: ” مجاهدة من جيش التحرير الوطني منطقة الجزائر المستقلة: ” لقد سمح الإضراب بتعرية ونزع القناع عالميا عن الطبيعة الحقيقية للحضور الفرنسي في الجزائر، وإظهار الإرتباط العميق لشعبنا بالحرية والكرامة والإستقلال”.
وتشير المجاهدة إلى أن قرار الإضراب لم يكن اعتباطيا بل كان عبارة عن مجموعة من الإجراءات، التي أخذت لجنة التنسيق والتنفيذ على عانقها مهمة تأديتها على أكمل وجه.
ومن بين أهم هذه الإجراءات تشكيل لجان فرعية للإضراب في كل ناحية و منطقة، وقسمت القصبة إلى احياء صغيرة وتشكيل لجان وفرق لتغطية جميع الأزقة، وشكلت لجان داخل المؤسسات الإستيراتيجية مثل الموانئ والنقل بمختلف أنواعه والإذاعة والبريد والأسواق العامة والمصالح البلدية، إضافة إلى قيام لجان الإضراب، بإقتطاع الأموال من صنادبق جبهة التحرير الوطني لمساعدة العائلات المحتاجة غير القادرة على تسديد فاتورة المواد الغذائية مدة أيام الإضراب,
وفي هذا الصدد ذكر ياسف سعدي، أنه قبل شن الإضراب بأيام إلتقى محمد العربي بن مهيدي، ووضع تحت تصرفه مبلغ 10 ملايين فرنك فرنسي لتسديد فاتورة المواد الغذائية للعائلات المعوزة في حي القصبة والتي لا تستطيع توفير الحاجيات الضرورية طول مدة الإضراب.
توظيف فنانات لشرح أهداف الإضراب
لتوزيع المناشير والبيانات من أجل توعية السكان بأهداف الإضراب، استعان ياسف سعدي بفنانات نظرا لشعبيتهن وشهرتهن ولانهن كن يحظين بالإحترام والتبجيل من طرف سكان العاصمة.
واستطاع ياسف سعدي، بمساعدة الفنان حبيب رضا، من تنظيم اجتماع بحضور زهرة ظريف، وجميلة بوحيرد، وحوالي 15 فنانة منهن كلثوم، فريدة، فضيلة الدزيرية، أختها قوسم ووهيبة عويشات، حيث كلفن بشرح اهداف الإضراب للنساء اللائي سيذهبن لزيارتهن في الأحياء الشعبية لمدينة الجزائر وضواحيها واعداد تقارير خاصة بإحصائيات العائلات المعوزة، والتي ليس لها امكانيات تخزين المواد الغذائية لمدة أسبوع كامل.
في فجر 28 جانفي 1957، اتخذت مجموعة من الشاحنات أماكنها في أعالي القصبة توزع آلاف المظليين عبر المدينة العتيقة، احتلوا جميع الأزقة كانت أحياء المسلمين خالية على عروشها لا شئ يتحرك، حيث أطلق عليها البعض بالمدينة الشبح والبعض الاخر بالمدينة الميتة.
خيّم صمت رهيب ودعت السلطات الإستعمارية الجزائريين بمكبرات الصوت، التي جابت الأحياء بعدم الإنسياق وراء الإضراب والذهاب إلى عملهم وتهديدهم، وفي المقابل وزع المظليون الحلويات على الأطفال واظهروا اهتماما بحالتهم الصحية.
وألقت مصالح الجنرال ماسو، المناشير بإستخدام الطائرات المروحية على القصبة يحث فيها الجزائريين على ضرورة الإلتحاق بعملهم من أجل تخفيض عدد البطالين والمتنزهين خوفا من حدوث عمليات ارهابية، وقامت فرقة المظليين العاشرة بترويج منشور يحمل توقيع جبهة التحرير الوطني جاء فيه: ” ليست جبهة التحرير من أطلق الإضراب.. بل الجنرال ناسو”.
وتحدثت الصحف الفرنسية الإستعمارية منها لوموند، Le journal d’Alger, France observateur, عن صدى الإضراب بالقول: ” إن نسبة المنقطعين عن العمل كبيرة، وهي مرشحة للتصاعد خاصة وأن كثيرا من الموظفين قد انضموا للإضراب بعد منتصف النهار من اليوم الأول خصوصا في الجزائر العاصمة”.
ونقلت وكالة رويتر البريطانية، في تقريرها الصادر يوم 30 جانفي 1957 الآتي: ” هناك اضراب حددت مدته بأسبوع بدأه الجزائريون ودعت إليه جبهة التحرير الوطني، ان ما يقارب 90% من الدكاكين في المدن الرئيسية في الجزائر كانت مغلقة وان 70% من الموظفين الذين ليسوا فرنسيين لم يذهبوا إلى أعمالهم، الإضراب شمل جميع أنحاء البلاد من مغنية على الحدود الغربية حتى تبسة على الحدود الشرقية”.
واجهت ادارة الإحتلال الإضراب بحملات قمع واعتقالات، وأخرجت التجار والموظفين بالقوة ونقلهم إلى دكاكينهم، من أجل إحباط الإضرب، حيث حاصرت الفرقة المظلية العاشرة الأحياء واقتحمت المنازل دون أدنى اعتبار لأهلها واعتقلت من صادفتهم في طريقها، كما داهمت المحلات التجارية للجزائريين وفتحتها بالقوة وبمختلف الوسائل العسكرية وتركها للنهب عمدا.
تقول زهرة ظريف في مذكراتها: ” تابعنا من فوق السطوح مشهد مخجل لدولة الحقوق والحريات، فقد كان المظليون يكسرون الستائر الحديدية للمحلات التجارية بأدوات ميكانيكية ما أحدث دويا رهيبا، وذلك تحت أنظار الأوروبيين وتصفيقات المدنيين”.
وفي اليوم الثاني والثالث بحثت قوات الجنرال ماسو، عن عمال السكة الحديدية وعمال الغاز والكهرباء والبريد والمواصلات وجلبتهم بالقوة إلى مواقع عملهم، وأرسل ماسو، المظليين إلى المناطق الريفية لقطف الخضر وتموين السوق للأوروبيين.
تكثيف العمل الفدائي بعد إعدام زبانة وفراج
عرفت مدينة الجزائر في 1957 نشاطا فدائيا كبيرا ودورا تاريخيا هاما، كان لجبهة التحرير الوطني في هذه السنة في المنطقة المستقلة تنظيم جيد وحضور نضالي قوي خاصة خلال المرحلة، التي أطلق عليها الإستعمار الفرنسي تسمية معركة الجزائر.
وأدت مدينة الجزائر، دورا تاريخيا هاما ضد الإستعمار الفرنسي فقد كانت المنطلق للعديد من العمليات الفدائية الجريئة الموجهة إلى العدو في مقر سلطة الإستعمار الفرنسي لإبلاغ الرأي العام الدولي على حقيقة ما يجري في الجزائر ويتأكد ان ما يحدث فيها هو ثورة حقيقية هادفة إلى استرجاع سيادة وكرامة الجزائريين.
خلال هذه المرحلة بدأت القضية الجزائرية تعبئ الرأي العام الدولي فكانت موضوع اهتمام ونقاش في الجمعية العامة للأمم المتحدة خاصة بعد اضراب الثمانية أيام التاريخي، الذي عزز مكانة وسمعة جبهة التحرير الوطني داخليا وخارجيا وحقق انتصارا سياسيا على الساحة الدولية بتعريف الرأي العام العالمي بالقضية الجزائرية العادلة، والرفض التام للنظام الإستعماري والمطالية باسترجاع السيادة الوطنية، التي اغتصبت في 1830.
وأصدر مؤتمر الصومام يوم 20 أوت 1956 وثيقة سياسية تضمنت تقسيم البلاد إلى ست ولايات وخصت الجزائر العاصمة والبلديات المجاورة لها بتنظيم خاص اسمه المنطقة المستقلة للجزائر، وتنظيم وهيكلة خاصة بها وتمنح لها جميع الاختصاصات وتكون غير مرتبطة بالولاية الرابعة فهي تابعة للجنة التنسيق والتنفيذ، التي كانت تشرف عليها مباشرة يترأسها العربي بن مهيدي، كقائد للمنطقة المستقلة ويساعده مسؤول مكلف بالشؤون العسكرية واخر مكلف بالشؤون السياسية.
وتشير مصادر تاريخية إلى تقسيم المنطقة المستقلة إلى ثلاث نواحي إقليمية وعلى الصعيد التنظيمي كانت منطقة الجزائر المسنقلة تتألف من فرعين الفرع السياسي والعسكري، إضافة إلى تأسيس شبكة لصنع القنابل.
وتؤكد الباحثة نبيلة لرباس، في مقال صدر بمجلة البحوث العلمية في 2021، بعنوان “المنطقة المستقلة خلال معركة الجزائر أوت 1956- أكتوبر 1957، ان عملية إعدام أحمد زبانة وعبد القادر فراج، شنقا تعتبر من الأسباب التي دفعت قادة الثورة في المنطقة المستقلة للجزائر إلى تكثيف العمل الفدائي بقوة، وتشير الباحثة إلى أن تاريخ اعدام الشهيدين حسب ما يؤكده فرحات عباس هو تاريخ بداية ما سمي بمعركة الجزائر.
واستطاع العربي بن مهيدي، زرع العمل الفدائي بقواعد فنية وعسكرية في نفوس الفدائيين والفدائيات في زمن قصير، لزرع الرعب في نفوس الفرنسيين المتطرفين المقيمين في الجزائر واضعاف معنوياتهم، وهذا ردا على العملية الإجرامية التي قام بها الإستعمار في شارع التبس، والتي خلفت العديد من الشهداء.
واول عملية فدائية نفذت كانت في 30 سبتمبر 1956، بانفجار قنبلتين واحدة في مقهى الميلك بار، حيث كلفت زهرة ظريف، بوضعها والثانية بمقهى كافيتريا وضعتها سامية لخضاري، التي كانت رفقة والدتها، اما القنبلة الثالثة كلفت بوضعها جميلة بوحيرد، بمقر مؤسسة الخطوط الجوية الفرنسية بساحة الموريتانيا، لكنها لم تنفجر، حسب شهادة ياسف سعدي.
تذكر مصادر تاريخية أن مدينة الجزائر عرفت مراقبة مشددة خلال معركة الجزائر، كانت قوات المظليين بأمر من الجنرال ماسو، يفتشون المنازل يوميا في الفترة من 25 مارس إلى 30سبتمبر 1957، حيث اعتقل حوالي 20 ألف شخصا العشرات منهم استجوابوا، و بتاريخ 14جانفي 1957 اعتقل أكثر من 3000 شخصا بحي القصبة، نقلوا إلى مراكز الفرز المختلفة و بتاريخ 16جانفي أعتقل حوالي 1500شخصا.
حاصرت قوات الإحتلال أحياء المنطقة المستقلة بأسلاك شائكة واعتقالات ونهب المساكن واغتصاب الفتيات أمام أهلهن وكذلك الجيران في القصبة.
وبعد اضراب الثمانية أيام، تضاعفت الاعتقالات والاغتيالات بدون محاكمة وزادت مراكز التعذيب والبحث والإستنطاق وحولت المدارس إلى ثكنات اقام فيها المظليون.
من نتائج الإضراب تضرر المصالح الإستشفائية بعد استجابة 95% من الموظفيين الجزائريين لنداء الإضراب، المحلات التجارية الجزائرية كلها مغلقة بنسبة 100%، المقاهي العربية مغلقة، مشاغل ومخازن الحامة، المصالح الادارية للسكة الحديدية، ومراكز البريد والمواصلات أيضا.
خارجيا، لقي الإضراب تأييد من البلدان المغاربية كتونس، حيث أعلنت يوم 30 جانفي 1957 اضرابا عاما دعت إليه التنظيمات العامة تضامنا مع جبهة التحرير الوطني والجزائريين، وفك الضغط عن الريف. وكان اهم شئ حققه الاضراب ادراج القضية الجزائرية في الدورة الاستثنائية للجمعية العامة في هيئة الأمم المتحدة.