اهتمت الإيالة الجزائرية بجوانب عسكرية مختلفة، وكرست اهتمامها بالجيش البحري.
يذكر الاستاذ محمد بن جبور، أستاذ مساعد بقسم التاريخ جامعة مصطفى اصطمبولي معسكر، في مؤلفه ” البحرية الجزائرية في اواخر العهد العثماني”، أن الأسطول، الذي كان يمثل هيبة وسيادة الدولة ومحور قوة الجزائر العسكرية والسياسية في البحر الابيض المتوسط كان يشرف إداريا على البحرية الجزائرية، كان يرأسه يالي وكيل حرج، وقد كان من أبرز الضباط في الجيش الإنكشاري.
ويوضح الباحث، أنه من أبرز الضباط، الذين كانوا يأتون بعد يالي وكيل حرج القبودان، وهو القائد الأعلى للأسطول البحري عند خروجه من الميناء الى عرض البحر، ثم يأتي بعده ليمان الرئيسي، أي قائد الميناء، وهي الوظيفة نفسها التي كانت موجودة في اسطنبول، حيث كان يشرف على تفتيش الميناء ومراقبته وكانت له في الإيالة سفينة خاصة به يجوب بها المياه الإقليمية لمدينة الجزائر ليراقب شواطئها وحركة السفن التي تدخل وتخرج منها، ومعرفة هويتها وطبيعة مهامها.
كان يهتم أيضا بالأخبار الدولية، التي كانت تتناقلها السفن الوافدة الى الإيالة، إضافة إلى استلام الرسائل الموجهة للباشا، وكان بعض الباشوات في الجزائر يكلفون ليمان رئيسي، بإيصال الرسائل الى الدول.
ومن وظائف البحرية الأخرى وظيفة وارديان باشي، والذي يعتبر من أبرز الموظفين في البحرية الجزائرية، حيث كان يشرف على انشطة الخدم في الميناء والذين كان معظمهم من الأسرى الأوروبيين وكان يعين لكل رئيس سفينة والعدد المناسب من الخدم للعمل على متنها.
بالنسبة لقيادة السفن في الجزائر، كانت من اختصاص عدد من الرؤساء، مثلما يقول الباحث، و”لم تكتف الدولة العثمانية بالإستعانة بالأسطول البحري الجزائري، بل كانت تتلقى خلال ثلاثة قرون أحسن البحارة من الجزائر مثل علي باشا، الذي كان جنديا في الجزائر ثم طاهر باشا، الذي التحق بالبحرية ثم المدفعية”.
وفي هذا الصدد، يذكر الأستاذ بن جبور، أن الكتابات الفرنسية تتفق على أن البحرية الجزائرية قد بلغت أوجها في منتصف القرن السابع عشر، وقد مكنتها قوتها من نفوذها البحري والسياسي الى الحوض الغربي للبحر المتوسط من جهة وأوروبا الغربية من جهة اخرى، وقد كان الأسطول الجزائري يبحر من الجزائر الى بريطانيا وأيسلندا، وجزر الكناري، وغيرها.
يقول: “وصفت هذه الكتابات البحرية الجزائرية بمصطلح القرصنة بيد ان الواقع أثبت بأن الأسطول الجزائري، لم يكن دوره عدائيا وانما كان يهدف الى حماية الجزائر والإسلام من تحرشات الصليبيين خاصة الإسبان والبرتغال، التي كانت حملاتهم تهدد امن سواحل الإيالة الجزائرية من حين لآخر وتشكل خطرا على الإسلام، واتهمت تلك الكتابات الإيالة وبحريتها بأنها لم تحترم القوانين الدولية”.
ويؤكد أن قيمة و اهمية البحرية الجزائرية برزت كشكل من أشكال الحركة التجارية في أوقات الحرب، اذ اعتمدت على التفوق في الميدان العسكري، حيث تجسدت قيمتها في الميدان التجاري وفي الجمع بين بيع الأسرى واعادة بيع السفينة المحملة كمصدر اساسي لثروة سكان الإيالة العاملين في البحرية.
“في القرنين 17و18 كثفت الدول الأوروبية هجماتها وتدخلاتها على السواحل الجزائرية، ومن بين هذه الهجمات الهجوم البريطاني على مدينة الجزائر في 1652، ومحاولات فرنسا التوسعية بالهجوم على مدينة جيجل في 1664وفي 1665.”
ويشير الباحث الى أنه في السنة نفسها قصفت سواحل الإيالة وميناءها، إضافة إلى الهجمات التي شنتها فرنسا على الجزائر بالمدفعية سنوات 1672،1682،1688.
وتجدر الاشارة الى ان القرصنة بالنسبة للجزائريين كانت صناعة تتقيد بالعرف والقوانين الدولية على نقيض القرصنة البرتغالية، وكانت البحرية الجزائرية تهدد مصالح الدول الأوروبية في البحر الابيض المتوسط.
ويضيف: “بالنسبة للجزائر، ألزموا دول أوروبا عقد معاهدات للسماح لهم بالملاحة في البحر الابيض المتوسط مقابل إتاوات او قروض، وكانت الجزائر تعامل الأسرى معاملة حسنة مع السماح لهم بممارسة طقوسهم الدينية”.
ويقول أيضا: ” هناك مصادر فرنسية قدرت لنا حجم القوات البحرية للإيالة الجزائرية في 1753 على الشكل التالي سبعة سفن كبيرة 56 مدفعا، 11شبكا مسلحا، 6 سفن صغيرة لحراسة السواحل وأكثر من 20 زورقا لحماية الميناء”.
وصفت الكتابات الفرنسية البحرية باللصوصية والإيالة بوكر القراصنة واللصوص.
وفي هذا الشأن، يؤكد الباحث بن جبور، أن الإيالة الجزائرية مارست مثل اية دولة بحرية في المشرق و المغرب القرصنة بمفهومها الشرعي والقانوني، الذي يحدده قانون البحار والعرف الدولي لدرجة ان الدولة الجزائرية كانت تعاقب البحارة، الذين يخالفون هذا القانون.
ويذكر الباحث أن النظام الذي طبقه الجزائريون في تكوين طاقم السفينة في الإيالة، هو النظام نفسه الذي اعتمدته الدولة العثمانية، وكانت الأيالة تفتح أبواب البحرية أمام الراغبين من العامة في العمل بها، من بين ألف و500 بحار كانوا يمارسون عملهم في ميناء الجزائر عام 1820، كان ثلثهم أي 500 من الرعية والباقي من الأوجاق، ومن بين 9 سفن خرجت في البحر المتوسط في أكتوبر 1804.
” كان رؤساء أكبر ثلاث سفن منها من الرعية، ومن أشهرهم الرئيس حميدو، الذي كان خادما في ضباط الجيش البحري، ثم ارتقى إلى رتبة بحار وزميل بعدها إلى ضابط، إلى أن أصبح رايس أي قائد الأسطول الأيالة”.
العصر الذهبي لإيالة الجزائر..
تحدث الدكتور والمؤرخ الكبير مولاي بلحميسي، في كتاباته عن الجهاد البحري في الجزائر في العهد العثماني وابرز أهميته كواجب ديني ومهنة، حيث كانت الجزائر قاعدة اساسية للأسطول الجزائري الذي كان يقوم بمهمة الجهاد البحري.
قال بلحميسي في هذا الشأن: “.. وكانت الجزائر لا ميناء تجارة فقط، بل أضحت مرسى حرب وقاعدة هجوم ومأوى للأسطول الجزائري، فيها تدبر العمليات ومنها تنطلق الأجفان لإصطياد غنائم العدو…”.
وأكد المؤرخ بلحميسي ان القرن السادس عشر هو بداية عصر ذهبي للجهاد البحري في الجزائر، وقال: ” مرد ذلك هو الإهتمام المتزايد لحكام الجزائر العثمانيين بهذه المدينة التي جعلوا منها عاصمة لهم، وكانت نقطة البداية بالنسبة لهم خلال هذه الحقبة التاريخية من فترة الحكم العثماني للجزائر ما بين 1516-1830″.
ونقل البروفيسور بوعزة بوضرساية، في دراسة له نشرت بمجلة الدراسات التاريخية العسكرية في جانفي 2020، شهادة الشيخ أبو الحسن علي بن محمد التمغروطي المتوفى في 1594، عن البحرية الجزائرية، الذي قال: “.. أعجبت بعدد السفن في المرسى وبشجاعة الرياس وصبرهم وحدة ذكائهم.. فهم نار على النصارى في أقطارهم يزرعون الرعب في قلوبهم.. وهم يفوقون بكثير رياس القسطنطينية ويخافهم العدو أكثر من غيرهم”.
وأضاف: “.. كانت مدينتهم أرفع شأنا وأكثر سكانا من جميع مدن المغرب حتى سميت بإسطمبول الصغيرة..”.
وعن تنظيم العمليات الجهادية البحرية، يشير البروفيسور بوضرساية، نقلا عن المؤرخ مولاي بلحميسي، إلى أنها كانت تتطلب استعدادات في منتهى الدقة منها صناعة المراكب، وتعيين رياس البحر وتجهيز الأجفان وتزويدها بالمؤونة والسلاح، وهو ما زاد في عدد قطع الأسطول الجزائري ليرتفع في 1571 إلى 50 جفنا، و25 مركبا حربيا في 1581.
ويؤكد مشاركة كل الشرائح الإجتماعية في هذه العمليات الحربية كل حسب مقدرته فصغار التجار والبلدية يشتركون في شراء المراكب وتجهيزها والنساء كن يبيعن زينتهن للمساهمة في الجهاد البحري، وطائفة الرياس كانت لهم دراية كبيرة بالملاحة.
“وكان يصاحب الرايس مجموعة من الإختصاصيين والفنيين من النجار إلى الجراح، الى مسؤول الحسابات المالية وربان السفينة والقائم بخدمة المدافع، وكانت الطاعة للرايس أمرا ضروريا لا يقبل المخالفة أو المناقشة”.
وأكد القنصل الأمريكي في الجزائر وليام شالير، أن أول معاهدة عقدتها بريطانيا مع الجزائر تحمل تاريخ 1682، ومن ذلك التاريخ بدأت شهرة الأيالة التي كانت خلال ثلاثة قرون متوالية تبعث الرعب في المماليك المسيحية وسوطا في جنب العالم المتحضر، مثلما قال شالير.