تشاء الأقدار أن يكون شهر مارس شهر استشهاد أبرز قادة الثورة، منهم العقيد لطفي.
من أشهر أقوال الشهيد العقيد لطفي، التي تذكرها مصادر تاريخية، هي أن المعركة الحقيقية يجب أن تكون داخل التراب الجزائري، ومما كتبه بخصوص رؤيته لمستقبل الجزائر، قوله: ” في جزائر الغد ستكون فرص العمل متاحة للجميع، فبلدنا غني بالثروات التي يجب تقاسمها بإنصاف”.
وفي خطاب موجه للشبيبة الجزائرية كتب العقيد لطفي: “بما أننا ثوريون، نؤمن بأننا قد نستشهد في يوم من الأيام، ولكن هذه التضحية يجب أن لا تذهب سُدى إذ يجب تحقيق الأهداف النبيلة التي ضحينا من أجلها، وهذا من واجبكم كشبيبة جزائرية رفع المشعل وضمان تنفيذ القَسَم، الذي قطعناه من أجل التضحية في سبيل انتصار بلدنا العزيز”.
قاد الشهيد العديد من المعارك طيلة أشهر طويلة أهمها معارك دارت بقعدة أفلو بالمنطقة الثامنة وخنقة عبد الرحمان، واشتباكات أخرى في خنقة البيض، في مناطق بعيدة عن تلمسان.
تُجمع مصادر تاريخية على أن الشهيد تميز بحنكة سياسية وعبقرية عسكرية، كقائد في الثورة التحريرية لانه أخذ على عاتقه مسؤوليات أكبر من سنه وهذا بين 20 و26 سنة.
متفتح على عصره
كان إنسانا واعيا بالتاريخ الجزائري والحضارة الإسلامية ومتفتحا على الأفكار العصرية وإنسانا ديمقراطيا، وأديبا ومنظرا لمستقبل الجزائر بعد الإستقلال، حسب ما جاء في كتاب إبنته شهيدة.
تطرقت إبنة لطفي إلى نزعته الأدبية وتعلقه بأدباء ومفكرين طبعوا زمانهم من أمثال، سانت أوغيستان وكورناي وراسين، وتأثره أيضا، بحكم ثقافته المزدوجة وإتقانه للغة العربية، بأعلام الأدب والفكر العربي من أمثال جبران خليل جبران، وابن سينا وقد إختار اسمه الثوري «العقيد لطفي» لتأثره بأشعار ومؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي
هو أدغين بن علي، وعرف بإسم بن علي بودغن، سي ابراهيم الإسم الثوري للعقيد لطفي، ولد في حي القلعة العليا أحد الأحياء العريقة من مدينة تلمسان وسط محيط محافظ ومتصوف بتاريخ 05 ماي 1934.
عاش وسط عائلة متواضعة ميسورة الحال، له سبع إخوة وأخوات، زوال دراسته الإبتدائية بمسقط رأسه تلمسان، أظهر حرصا وتفوقا متميزين وحاز الشهادة الإبتدائية في 1945، وتحول بعدها للدراسة بوجدةفي المغرب، والجزائر العاصمة حيث تنقل والده للإقامة.
عاد مجددا إلى تلمسان، أين درس بالمدرسة الفرنسية الإسلامية رفقة الكثير من أبناء مدينته ممن سيكونون لاحقا عناوين نخبوية ووطنية معظمهم أصدقاء منذ زمن المدرسة الإبتدائية.، مثلما تذكره مصادر تاريخية.
و” بعد إنهاء المرحلة الثانوية وانتسابه إلى مدرسة تلمسان الحرة ذات التعليم المزدوج اعتبارا من 1950، بدأت ملامح الوعي والتشبع الثقافي تطبع سلوكاته وخطابه اذ كان يستحضر التجارب التاريخية ذات الدلالات الوطنية عبر الكتابات الأدبية والنصوص الشعرية منها الأعمال المتميزة للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي، وغيره”، مثلما يشير إليه الأستاذ عبد المجيد بوجلة، بقسم التاريخ جامعة تلمسان، في دراسة بعنوان “العقيد لطفي ودوره الثوري في الولاية الخامسة 1934-1960”.
ويضيف الباحث: “أثار الشهيد لطفي، إعجاب بعض أساتذته من الفرنسيين بفضل أناقته وطول قامته ونظرته الثاقبة المعبرة، حتى أن بعضا من المدرسين سجلوا عليه إصراره على تصحيح التصورات الخاطئة عن الإستعمار بشكل عام والإستعمار الفرنسي بشكل خاص على اعتباره عملا حضاريا وإنسانيا”.
ويقول أيضا: “رد مرة وبشئ من العنف المتدفق على أستاذه، الذي اعتبر العرب أمة متوحشة في العصور الوسطى”، وقال له: “..كيف يمكن لأمة كانت تعيش أزهى عصورها وفي أفضل عطائها الحضاري أن تكون كذلك في وقت كانت فيه أوروبا تغرق في غياهب التخلف وسجينة الكنيسة، التي تفرض عليها نظرية الحق الإلهي..ولعل مثل هذه المواقف كثيرا ما كانت تصدر منه بعفوية عزيزة”.
مثقف ذي فكر استشرافي
وتبرز مصادر تاريخية ” أن شخصية لطفي تميزت بالنظرة الواعية، التبصر والحكمة في الخطاب والمسؤولية الناضجة في الطرح إذ كثيرا ما كان يردد في مجالسه مع العديد من أصدقائه عبارة:”عش أو مت كريما..”، حتى أصبح يظهر شابا مفكرا يرجح التريث والتأمل قبل العمل”.
وفي هذا الصدد، يقول الأكاديمي بوجلة: “كان الشهيد متعلما مثقفا صاحب بعد النظر، حتى أنه كان يعيش متعته في المطالعة وحتى الكتابة، التي ضمنها جوانب من فكره الإستشرافي خاصة في المسائل الإقتصادية وهو الذي وضع تصورا لمستقبل الجزائر في العلاقات الدولية وضمن المنظمات العالمية”.
ويضيف: ” كان العقيد لطفي، يحلم بعد الإستقلال أن يكون ملحقا عسكريا بسفارة الجزائر بكوبا وحلمه الأكبر أن ينجز دراسة مقارنة بين الثورة الكوبية والثورة الجزائرية. فمن مقعد الدراسة بدأ يتدفق التوجه الوطني والثوري لشخص لطفي الذي ظل حريصا على وجوب وضرورة التحصن بالعلم”.
انخرط الشهيد، في خلايا الكشافة الجزائرية الإسلامية التابعة لحركة انتصار الحريات الديمقراطية منذ 1954، رفقة بعض أصدقائه من المدرسة.
“بتاريخ 17 أكتوبر 1955 وبمبادرة خاصة قرر لطفي، الإلتحاق بالثورة من قرية بني سنوس، نواحي تلمسان عن طريق بعض المواطنين بعد أن اتخذ قرارا صعبا يقضي بهجرة مقاعد الدراسة وهو الأمر الذي بينه في رسالة موجهة إلى والديه يشرح فيها خطوته على أن واجب الوطن يظل قضية كل جزائري.”، حسب مصادر تاريخية.
” إلتحق العقيد لطفي، بالشهيد سي جابر، نقيب وقائد القطاع الثالث وقتذاك والذي سوف يصبح لاحقا قائدا على المنطقة الأولى وبإلتحاقه رسميا بصفوف جيش التحرير، كانت الثورة قد كسبت مناضلا وعسكريا مثقفا سوف تعهد إليه إدارة أشغال الأمانة العامة للمنطقة الخامسة، وقد تنبهت السلطات الإستعمارية لخطورة نشاطه وراحت تهدد عائلته بالعقوبة القصوى في حال عدم تسليم نفسه خلال 24 ساعة عندها أصدرت قيادة الثورة أمرا لعائلته بمغادرة تلمسان نحو المغرب حفاظا على أرواح أفرادها وهو ما حصل بالفعل، يؤكد الباحث في شهادته.
“بعد استشهاد الحكيم بن عودة بن زرجب، في أكتوبر 1956، طلب سي جابر، من لطفي التكفل بمنطقة تلمسان، حيث بدأ ينشط بكسب عناصر جديدة في تلمسان وسبدو وصبرة وعين غرابة، وبني بوبلان وبني مستار، وغيرها، وأنشئ فرقا فدائية.
أعاد العقيد لطفي، تنظيم النشاط السياسي والثوري في تلمسان والمنطقة الخامسة، وكان من بين الذين قادوا عملية فدائية استهدفت نادي الضباط الفرنسيين بتلمسان، والهجوم على دورية ظهر خلالها لطفي بالبزة العسكرية الفرنسية الى جانب اهداف استعمارية اخرى.
وتؤكد مصادر تاريخية، أن بن علي بودغن، استطاع بفضل حنكته السياسية وقوة الإقناع، أن يعزز الثورة بالكثير من أبناء الجزائر المجندين في صفوف الجيش الفرنسي خاصة منهم قدامى المحاربين، وقد وفق في جمع نحو 500 عنصرا وجمع 600 قطعة من الأسلحة الحربية المختلفة الصنع، هذه الكمية من الأسلحة عززت من توسيع العمليات الفدائية في مختلف نقاط المنطقة، وبموجب ذلك إقترح لطفي على عبد الحفيظ بوصوف، ترقية تلمسان إلى ناحية قبل الإلتحاق بمركز القيادة في 1956، ببني بوسعيد، جنوب مدينة مغنية، يشير الباحث بوجلة.
ويبرز الأكاديمي، أن ” العقيد لطفي، تكفل بالجنوب الوهراني المنطقة الثامنة الممتدة حاسي منير إلى تندوف، وقاد العديد من المعارك والإشتباكات العنيفة مع جيوش الإحتلال منها المعركة الكبيرة، التي واجه فيها الشهيد لطفي، الجنرال بيجار، في تيميمون في 1957، حيث انصب عمل الشهيد، على فتح جبهة ثورية جديدة لضرب العدو ومنع تدفق النفط باتجاه الإنتفاع لفائدة فرنسا، وتعمد تكثيف العمليات ونصب الكمائن ووضع المتفجرات، لتحقيق هدف استيراتيجي وهو إقناع الإستعمار على وضع هذه المنطقة ضمن الفضاءات الخطيرة.”
حنكة عسكرية في قيادة المعارك
ومن أبرز ومن أهم المعارك، التي قادها العقيد لطفي يقول – الباحث بوجلة-معركة القعدة بجبل عمور، تكبد خلالها الإستعمار خسائر فادحة في الأرواح 100 ضابطا وأزيد من 700 جنديا، فضلا عن إلحاق الدمار ب80 عربة عسكرية.
في جانفي 1957، ترقى بن علي بودغن، إلى رتبة نقيب وعين على رأس المنطقة الثامنة من الولاية الخامسة بعد التنظيم والهيكلة الجديدة، التي خضعت لها الثورة بعد مؤتمر الصومام، حيث إمتد نشاط العقيد لطفي، إلى غاية طول الخط الجنوبي والجنوب الشرقي بوسعادة، الجلفة، وبسكرة وغرداية وغيرها، ومد العمليات الفدائية باتجاه الجنوب.
” في ماي 1958، رقي الشهيد إلى رتبة عقيد وعين قائدا بالولاية الخامسة وفي 6 جوان 1959، قاد العقيد لطفي، العضو في المجلس الوطني للثورة الجزائرية ضمن وفد قاده فرحات عباس، وعبد الحفيظ بوصوف، إلى دولة يوغسلافيا ضمن نشاط مكمل لعمله الثوري”، حسب مصادر تاريخية.
في هذا الصدد، يؤكد الأكاديمي، ” أن العقيد لطفي، أظهر قوة شخصيته أثناء انعقاد مؤتمر طرابلس ما بين ديسمبر 1959 وجانفي 1960، بنظرته التوفيقية ونبذ الخصومات الهاشمية والتأكيد على أولوية القضية الوطنية، على اعتبارها القضية الجوهرية ليقرر بعدها الإلتحاق بالداخل ودعم الثورة ميدانيا في قلب الولاية الخامسة”.
” خلال عودة العقيد لطفي، من المغرب باتجاه التراب الجزائري وتحديدا خلال المرحلة الثانية من التوغل وقعت اشتباكات قوية يوم 27 مارس 1960، بين لطفي وفراج، ومرافقيها من جهة ووحدات من قوات الإستعمار الفرنسي، حاول العقيد لطفي ورفيقه الرائد فراج، رسم مسلك العبور من الشمال عن طريق العريشة ثم التسلل عبر جبال القصور جنوب عين الصفراء، لكن سرعان ما استقر الرأي على جنوب بشار، عبر مرحلتين استغرقت منها أزيد من شهر، يشير الأستاذ بوجلة.
ويضيف: ” سلك العقيد لطفي، ورجاله الطريق من جنوب المغرب، وتحديدا من منطقة بودنيب، على ظهور المهاري إلى غاية غرب حمادة البرابر النقطة الحدودية بين المغرب والجزائر، وعند الفجر قررت المجموعة التوقف والتخييم طول النهار وعند قدوم الليل كان التوجه ناحية الجهة الغربية الشرقية على طول الحمادة، ثم عبروا السهل الممتد جنوب القنادسة باتجاه جبل بشار، واستمر السير طول الليل ومع طلوع النهار وصلوا إلى شمال شرق بشار.”
ويوضح الباحث: ” في الوقت نفسه كانت دوريات تابعة للجيش الفرنسي الإستعماري خلال خرجات استطلاعية قد تقفت أثر المهاري مما أثار الكثير الشكوك، التي دفعت الجانب الفرنسي للتحرك بواسطة سلاح الطيران، الذي أكد وجود أثار واضحة مشبوهة عندها أبلغت الوحدات البرية بوجود الجمال الرابضة فتحركت بسرعة ووقع لطفي وفراج، في مباغتة جرتهما الى اشتباك عنيف استشهد على اثرها العقيد والرائد واثنيين من مرافقيهما الجنود وجرح المرافق الخامس، الذي أكد هوية رفاقه الشهداء، دون أن تكتشف قوات العدو ذلك”. استشهد علي بودغن بتاريخ الـ27 مارس 1960.