تعتبر مظاهرات 11ديسمبر 1960، من بين المنعرجات الحاسمة في تاريخ الثورة الجزائرية لما حققته من مكاسب على المستويين الداخلي والخارجي.
كان بطلها الشعب بكل فئاته، هي محطة فارقة في تاريخ الجزائر عجل مسار المفاوضات، التي أفضت إلى توقيع اتفاقيات إيفيان واسترجاع السيادة الوطنية المسلوبة منذ 1830.
جاءت كرد فعل على مشروع ديغول الجهنمي
مظاهرات 11ديسمبر 1960، جاءت كرد فعل على سياسة ديغول، ومشروع الجزائر جزائرية، ورغبته في انشاء قوة ثالثة في الجزائر، حيث بينت هذه المظاهرات لفرنسا والعالم الصورة الحقيقية للوضع في الجزائر ما جعل ديغول، يصرح يوم 13 ديسمبر بالقول:” سمحت لي هذه الزيارة بإدراك المعيار الحقيقي للقضية الجزائرية”، حسب ما يؤكده المؤرخ الكبير محفوظ قداش.
وفي تصريح آخر يقول:”لقد فهمتكم ايها الجزائريين”.
يبرز يحيي بوعزيز، في كتابه “ثورات الجزائر في القرن التاسع عشر والعشرين”، ان المظاهرات أربكت من الناحية النفسية المستعمر الفرنسي، بحيث صرح الناطق الرسمي لأركان الحرب الفرنسية بالجزائر، والذي اعتبرها بمثابة ديان بيان فو، نفسية ثانية للفرنسيين.
ويقول الباحث بشير سعدوني، أن المظاهرات شكلت استفتاءا شعبيا مفتوحا عبر من خلاله الجزائريون في جل المدن عن رفضهم لسياسة ديغول بكل اشكالها. وكشفت عن وحشية المستوطنين وأعمالهم الإجرامية بالتعاون مع جنود المظلات والشرطة والدرك، بذبح الجزائريين بالسكاكين والإعتداء على المصلين وقتلهم بعد اقتحام مسجد كان يرفرف فوقه العلم الجزائري.
وخارجيا كسبت القضية الجزائرية تأييدا دوليا واسعا واعتراف الجمعية العامة لمنطمة الأمم المتحدة في 20 ديسمبر 1960 بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم.
عين تموشنت أول محطة …
بدأت زيارة ديغول بمدينة عين تموشنت صبيحة يوم الجمعة 9 ديسمبر 1960،حاول في اللقاء الذي جمعه بالمستوطنين في مقر البلدية لإقناعهم بمشروعه الجديد من خلال تنظيم استفتاء حول مصير الجزائر ودعوته لفكرة التعايش بين الطرفين، لم يجد خطاب ديغول ، اي تفاعل وقبول من طرف المستوطنين، حيث غادر القاعة.
وفي المقابل رد شباب عين تموشنت بشعارات “الجزائر جزائرية”، و”تحيا الجزائر مستقلة”، “أطلقوا سراح بن بلة ورفاقه”، “يجيا جيش التحرير الوطني” ،وهذا بعد سماعهم المستوطنين يهتفون بشعار “الجزائر فرنسية”، وفي مساء 9ديسمبر وصل ديغول، لمدينة تلمسان فاستقبله مجموعة من المتظاهرين الأوروبيين من الخروج للتعبير عن رفضهم لفكرة الجزائر جزائرية في الشوارع الرئيسية وساحة المدينة والمناداة بالجزائر فرنسية والصحراء فرنسية.
وتشير مصادر تاريخية الى ان ديغول، وصل لمقر البلدية، حيث إلتقى بالمشايخ والأعيان لإقناعهم بمشروعه، لكن سرعان ما تحولت لمظاهرات باتجاه الأحياء الأوروبية، ردد فيها الجزائريون شعارات مختلفة منها تحيا الجزائر، الجزائر مسلمة، غلب على هذه الزيارة جو المناوشات فتوجه ديغول لشرشال مباشرة.
وبالشلف تفاجئ ديغول، بجمع غفير ينادي “الحرية و الإستقلال”، “يحيا فرحات عباس”، كما شهدت هذه الزيارة اصطدام بين المتظاهرين المستوطنين والجزائريين باستعمال العصي والأسلحة التقليدية.
وانتقل بعدها ديغول، الى تيزي وزو، للدعوة لمشروعه، لكن تحول اللقاء الى اصطدام بين أهل القبائل والأوروبيين، ثم توجه الى بسكرة وباتنة، وختم زيارته للجزائر وتخلى عن زيارة بعض المدن، التي عرفت مظاهرات في ظل تمسك الجزائريين بالاستقلال التام تحت لواء جبهة التحرير وجيش التحرير الوطنيين، حسب ما أكده محمد قنطاري.
يوضح الباحث محمد الواعي، في دراسة حول مظاهرات 11ديسمبر واثرها على القضية الجزائرية، انه استكمالا للمشروع السياسي، الذي طرحه ديغول، بعنوان “الجزائر جزائرية”، قرر زيارة مدينة الجزائر اين واجهته اضرابات قام بها مجموعة من العمال والموطفين وسائقي الحافلات بإيعاز من الجبهة الجزائرية الفرنسية الرافضة لمشروع الجزائر جزائرية جملة وتفصيلا.
تجمع المتظاهرون الأوروبيون في كل من باب الواد، ساحة الشهداء، وساحة اول ماي، رافعين شعارات الجزائر فرنسية، الموت لديغول، عرفت هذه المسيرات مواجهة مع وحدات المظليين وفرق الحرس الجمهوري والشرطة، كما حطم المتظاهرون الحافلات والسيارات وواجهات المحلات التجارية ووضعوا الحواجز في الطرف مع كل عبارات السب و الشتم لديغول، معبرين له عن رفضهم القاطع لما جاء به من مقترحات.
ويشير بن يوسف بن خدة، في كتابه “شهادات ومواقف” الى خروج الجزائريين من يوم 10 الى 14 ديسمبر 1960، في مختلف المدن الجزائرية، العاصمة، وهران، سطيف، تلمسان، باتنة، قسنطينة، سيدي بلعباس، البليدة، تبسة، وبسكرة في مسيرات منظمة ضمت عشرات الجزائريين من مختلف الفئات.
وتؤكد مصادر تاريخية انها مظاهرات منظمة خالية من كل مظاهر التعصب الديني والعنصرية والعنف والفوضى، حمل الجزائريون فيها شعارات اهمها الجزائر مستقلة مسلمة، كما خيط العلم الجزائري في سرية تامة بألوانه الثلاث الأبيض، الأخضر، الاحمر.
قابل الإستعمار الفرنسي هذه المظاهرات السلمية، التي خرج فيها الجزائريون بكل فئاته أعزلا ليعبر عن مطالبته بالإستقلال تحت لواء جبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة، بتعنيف المتظاهرين والتنكيل بهم بالرشاشات والدبابات.
في هذا الصدد، يقول بن خدة :”عندما يأتي المساء ويسدل الليل رداءه على المدينة ويتوقف المتظاهرون عن التظاهر، يستأنفوها في الغد فيواصلون بصفة جماعية منادين بالنداءات والشعارات نفسها والأصوات ترتجف القصبة بكاملها”.
لم تتوقف هذه المظاهرات حتى توجه فرحات عباس، رئيس الحكومة المؤقتة بنداء للجزائريين كافة يوم 16 ديسمبر 1960، يشيد فيه ببسالة الجزائريين وتمسكهم بالإستقلال وتفطنهم للمخططات الإستعمارية ومدى وحشية الجرائم المرتكبة في حقه، وفي الاخير طلب وقف المظاهرات التي حققت أهدافها المرجوة.
دور المظاهرات في تقرير المصير
تحدثت الدكتورة فضيلة حفاف، من جامعة الجزائر 2، عن دور المظاهرات في تقرير مصير القضية الجزائرية، وأكدت ان المظاهرات كانت بمثابة الرياح العاتية، التي عصفت بأحلام ومشاريع الجنرال ديغول، هذا الأخير الذي ابتدع شعار “الجزائر الجزائرية”، بعد فشل المناورات العسكرية والسياسية في الجبال والمدن، كانت هذه المظاهرات والثورة الجزائرية في عامها السادس قد اصبحت حقيقة تعاطفت معها كل شعوب العالم، التي آمنت بعدالة القضية الجزائرية.
وتضيف “تزامنت هذه المظاهرات مع انعقاد الدورة الـ15 للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، حاولت فرنسا كسب الوقت واستعمال بعض دول إفريقيا الغربية ضد الجزائر في هذه الدورة والتأثير على باقي الدول لعزل الجزائريين”.
قال فرحات عباس، رئيس الحكومة المؤقتة في كتابه تشريح حرب:”هذه الثلاثة أيام العظيمة كانت أبلغ من قول كل خطيب وصداها أوسع من صدى المعارك التي خاضها المجاهدون في الجبال، قرر فيها الشعب الجزائري ان يعيش حرا او يموت”.
وتؤكد مصادر تاريخية أن الصحافة العالمية كانت متواجدة بكل أشكالها الاذاعة والتلفزيون والصحافة المكتوبة، كانت فرصة لكشف مطالب الجزائريين وتبنيه لمطالب جبهة التحرير الوطني ورفض منطق ديغول.
وفي يوم 12ديسمبر عقد فرحات عباس، مؤتمرا صحفيا بفندق الماجستيك، بالعاصمة التونسية حضره صحفيون ملحقون بسفارات دول اوروبية وافريقية واسيوية وألقى بيانا مطولا تناول فيه فشل مفاوضات مولان، في جوان 1960، ورفض فرنسا التفاوض مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وأكد على تراجع الحركة الإستعمارية وتمسك الجزائريين بالإستقلال، وطالب بإجراء استفتاء حر بإشراف هيئة الأمم المتحدة .
وندد بتلاعب الحكومة الفرنسية وتظليلها للرأي العام، وتأسف عباس، عن موقف بعض الدول الأفريقية، التي مازالت تبحث عن مبررات للوجود الفرنسي ودعا الدول الأفريقية للتضامن والتعاون لتحقيق استقلالها، وندد بموقف الحلف الأطلسي المساندة للإستعمار بدون تحفظ.
اكد على تعلق وتمسك الجزائريين بالحكومة المؤقتة، وعزم واصرار الجزائريين وجيش التحرير الوطني على مواصلة المعركة حتى الإنتصار مهما كان الثمن من اجل الإستقلال والتحرر والمحافظة على وحدة التراب الجزائري.
وعلى الصعيد الدولي دفعت هذه المظاهرات العديد من الدول للإعتراف بالحكومة المؤقتة وفتحت افاقا جديدة للدبلوماسية الجزائرية، وتدخلت مجموعة باندونغ وانضمت إليها الوفود الأخرى لإصدار قرار أممي يوصي بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم.
وبتاريخ 20ديسمبر 1960، اصدرت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة القرار رقم 14/15،الذي ينص على حق الجزائريين في تقرير مصيرهم واجراء استفتاء باشراف هيئة الأمم المتحدة، وتناقص الدعم الأمريكي لفرنسا وأيد الرئيس الامريكي جون كينيدي، استقلال الجزائر وأرغم الجنرال ديغول، على الإعتراف بجبهة التحرير الوطني الممثل الشرعي والوحيد للجزائريين وفتحت المفاوضات في لوسارن بتاريخ 20فيفري 1961 بوساطة سويسرية، وتوجت المفاوضات بتوقيع اتفاقيات ايفيان في 18مارس 1962.