يقدم العقيد عمار بن عودة شهادة حية عن أحداث ثورة التحرير إلى غاية ما بعد الاستقلال وأبرز الشخصيات التي كان لها الفضل في بناء جزائر الإستقلال.
زرناه قبل وفاته في بيته لتسجيل شهادة حية تعزز الذاكرة الوطنية عن أهم لقاء تنظيمي أسس لبداية الثورة التحريرية المظفرة ليلة الفاتح من نوفمبر 1954.
في هذا الحوار ، الذي نشرته جريدة الشعب، أن تفاصيل أهم لقاء جمع القادة الـ22 أين كان العقيد واحدا منهم.
الشعب: قبل أن نخوض في الحديث نريد معرفة من هي جماعة الـ22، وهناك من يطلق عليهم جماعة الـ21، فما الإختلاف في ذلك؟
العقيد عمار بن عودة: أولا أتشرف بكم من خلال منحي هذه الفرصة في الجريدة الوطنية الأولى، جريدة الشعب، لقد تقدم بنا العمر كما ترون، الحمد لله عايشنا العديد من الأجيال، وعشنا في الجزائر زمن الحرب والسلم، ولا يخفى على أحدكم هي ثمينة نعمة الحرية.
بالنسبة للإلتباس الحاصل في عدد المجتمعين الذين أسسوا لبداية الثورة وصاغوا بيان الفاتح من نوفمبر 1954 مرده إلى المؤرخ الفرنسي (ايف كوريار)، هذا المؤرخ كتب عن الثورة كثيرا إلى أن وصل إلى عدد المجتمعين فذكر أن عددهم 22 وفي الحقيقة هم 21.
بالإضافة إلى صاحب البيت الذي اجتمعنا فيه المدعو (دريش إلياس) ، وهو بطبيعة الحال لم يكن يشمله الإجتماع ماعدا أنه صاحب المنزل الذي تم فيه اللقاء، وللأسف مؤرخونا نقلوا عن هذا المؤرخ الفرنسي فحدث الإلتباس في الشخص صاحب المنزل، وأعيد وأكرر أن عدد المجتمعين هو 21 وفقط وصاحب المنزل لم يكن طرفا في هذا اللقاء ماعدا أنه صاحب المحل.
أما جماعة الـ21 فأغلبهم من مناضلي المنظمة السرية العسكرية، و أن أغلب عناصر هذه المنظمة هم مناضلون فارون من السجون الفرنسية، ومحل بحث من طرف الإدارة الإستعمارية، كنا ننتقل من مكان إلى آخر متنكرين خوفا من إلقاء القبض علينا.
كانت صورنا معلقة في العديد من المراكز والبلديات الإستعمارية آنذاك، والحمد لله لم تستطع الإدارة الإستعمارية القبض علينا، الأمر الذي زاد من يقيننا أن فرنسا هذه الأسطورة التي لا تقهر والتي لديها الإمكانيات العسكرية والإستخباراتية عجزت عن إلقاء القبض على مجموعة محدودة العدد تتنقل يوميا عبر العديد من ولايات الوطن، هذا أكبر تحفيز كان لي أنا شخصيا لمواجهة الإستعمار الذي جثم على صدور هذا الشعب أزيد من 130 سنة.
أزمـة الحركـة الوطنية ولـدت القناعــة بتفجــير الثــورة المسلحــة
ما هي أهم الظروف السياسية والإجتماعية التي سبقت هذا الإجتماع التاريخي؟ ولماذا جماعة الـ21 بالضبط من أسس للعمل المسلح ضد الإستعمار الفرنسي؟
الحديث عن الظروف السياسية التي سبقت اندلاع ثورة التحرير يقودنا إلى حزب الشعب لمصالي الحاج، والأزمة التي عصفت بهذا الحزب أين انقسم إلى تيارين، في الحقيقة كنا آنذاك نكن كل التقدير والإحترام لأب الحركة السياسية الوطنية مصالي الحاج.
كنت مسؤولا في المنظمة السرية وشاء القدر أن اعتقل من طرف الشرطة الفرنسية، أين قبعت بالسجن المدني لعنابة طيلة 13 شهرا (من مارس 1950 إلى غاية أفريل 1951)، نجحت في الفرار من السجن أنا وعدد من الزملاء الذين كانوا معي في المنظمة السرية قبل أن نعتقل، مباشرة التحقنا بالجبال التي كانت الملاذ الوحيد الذي نلجأ إليه، لأنه بعد الفرار مباشرة أضحينا محل بحث من طرف القوات الفرنسية، وصورنا معلقة بجميع القرى والمدن.
اتصلنا بكل من العربي بن مهيدي، ورابح بيطاط، ومحمد بوضياف، وزيغود يوسف، انتقلت شخصيا من جبال عنابة نحو قالمة ثم الأوراس وبعدها إلى غابات سمندو، أين كنا على اتصال دائم بمنطقة القبائل. وساعدنا في تسهيل تنقلنا زملائنا الذين كانوا بالمنظمة السرية ولم يلق القبض عليهم ولم يدخلوا السجن.
بين عامي 1954 و1951 كنا نحن عمار بن عودة، زيغود يوسف، بن طوبال، بن مهيدي، الأعضاء الأساسيين للمنظمة السرية نتابع بشغف إعلان تاريخ اندلاع الثورة التحريرية، ننتظر من أب الحركة الوطنية مصالي الحاج إعلان نقطة الصفر التي تؤسس لعمل وطني مسلح نواجه الإستعمار، ونهب هبة رجل واحد من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، لكن حزب الشعب لم يصمد كثيرا، وانقسم على هذه النقطة بالذات وهي اندلاع الثورة التحريرية.
وماذا بعد؟
اتفقنا على التزام الحياد حيال هذه الأزمة التي عصفت بحزب الشعب الذي انقسم إلى قسمين جماعة مؤيدة لمصالي الحاج وجماعة المركزيين، مع العلم أن أغلبنا كانوا مع حزب الشعب كمناضل وحتى كمتعاطف.
مشيت إلى عزازقة بعد هذه الأزمة، أين التقيت مع أوعمران بعزيب الشيخ محمد أمقران فالتقينا نحن الثلاثة (عمار بن عودة، أوعمران، وكريم بلقاسم)، واتفقنا أن نبقى ملتزمين الحياد وننتظر إلى ما سوف تؤول أوضاع الحزب الذي كان آنذاك العصب السياسي الرئيسي الذي يعقد عليه الجميع آمالا كبيرة.
بعد ذلك طلبت الإذن بالعودة إلى سمندو، أين التقيت كلا من (زيغود يوسف، بن طوبال، وديدوش مراد) تكلمنا عن اتجاه أزمة حزب الشعب ثانية، أين اقترح كلا من (ديدوش مراد وزيغود يوسف) ضرورة الإجتماع والخروج برأي حيال هذه الأزمة.
ديدوش مراد نسق مع كل من كريم بلقاسم ورابح بيطاط وجاء بفكرة أنه تكلم مع المركزيين وطرح عليهم إمكانية التحضير للعمل المسلح وانطلاق الثورة التحريرية.
في نفس الوقت تم توجيه كل من (محمد بوضياف ومصطفى بن بولعيد) إلى مصالي الحاج للإلتقاء به بفرنسا، وطرح فكرة توحيد الصفوف والإعداد للعمل المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، و اقترحوا عليه رئاسة الثورة، لكن مصالي رفض فكرة اندلاع الثورة في هذا الوقت وقال لهما (انتم تودون أن تأخذوا الشعب إلى المذبح، لأن الوقت غير مناسب لإنطلاق الثورة).
لماذا رفض مصالي الحاج آنذاك التحضير لإندلاع الثورة ؟
مصالي رفض فكرة التحضير لاندلاع الثورة، لأنه كان يرى في نفسه انه هو الكل في القضية، وأي مبادرة تطرح من أي جهة أخرى بالنسبة إليه لاشيء، كان يرى مصالي الحاج أنه الوصي رقم واحد في قضية الجزائر مع فرنسا.
مصالي والمركزيين على خط واحد
هذا عن رد مصالي الحاج الذي كان متواجدا بفرنسا آنذاك، فماذا عن رد المركزيين؟
سار المركزيون على نفس الإتجاه ، رفضوا هم بدورهم فكرة الإعداد والتحضير لإندلاع الثورة التحريرية، وجاؤوا بنفس الحجج التي ساقها مصالي الحاج آنذاك تقريبا رغم أن حزب الشعب انقسم إلى تيارين متناقضين، لكن مسألة اندلاع الثورة في هذا الوقت بالذات اتفق عليها هذان التياران.
هنا كانت هذه نقطة الحسم بالنسبة إلينا، فلابد من تنظيم مؤتمر وفيه نناقش مسألة اندلاع الثورة من عدمها.
كلفت جماعة الـ21 ديدوش مراد بضبط المكان للإجتماع، تم التحضير للاجتماع من طرف جماعة العاصمة (بوضياف، بن مهيدي)، تم تبليغنا نحن (بن عودة وزيغود يوسف) بحوالي 04 أيام قبل الاجتماع. وكان ذلك زمن أواخر الربيع من عام 1954، بالضبط زمن جني خضر الجلبانة، المكان هو منزل دريش الياس بالمرادية الجزائر العاصمة.
تم الاجتماع، افتتح الجلسة مصطفى بن بولعيد أين أعطى الكلمة إلى محمد بوضياف رحمهم الله، بوضياف أعطى عرض عن لقائه بمصالي الحاج هو وبن بولعيد، كذلك أعطى توصيف عن لقاء المركزيين، وخلص الجميع إلى فكرة أن تياري حزب الشعب ليسوا مع اندلاع الثورة.
و تكلم مصطفى بن بولعيد عن الإمكانيات الموجودة بالأوراس، والنواحي الأخرى، خاصة سمندو وتيزي وزو. من خلال عرض عن المال، الذخيرة والسلاح في كل منطقة وما يتطلبه العمل المسلح من تجهيزات.
كيف حسمت المسألة؟
تم الإتفاق بالأغلبية على الإعداد لاندلاع الثورة التحريرية بالتصويت، بعد ذلك تطرقنا إلى مسألة القيادة لهذه الثورة، تم ترشيح كلا من مصطفى بن بولعيد ومحمد بوضياف، لكن لم يحوز على أي احد على الأغلبية من الأصوات.
هنا اقترحت فكرة القيادة الجماعية للثورة، فكانت القيادة تحت راية الخمسة (محمد بوضياف، مصطفى بن بولعيد، رابح بيطاط، ديدوش مراد، العربي بن مهيدي)، التكفل بإدارة الثورة التحريرية وصياغة بيان أول نوفمبر باسم الشعب الجزائري إيذانا باندلاع الثورة التحريرية وربط الداخل، وكذا الخارج بهذه القيادة الواحدة.
بقي إشكال عدم وجود ممثل عن بلاد القبائل، أشار إلى ديدوش مراد أنني كنت ببلاد القبائل، يجب أن تتكفل بهذه المسألة، قلت نتصل بأوعمران، وهو بدوره اقترح علينا كريم بلقاسم، ووجدنا صعوبة كبيرة في إقناع أوعمران وكذا كريم بلقاسم لأنهم كانوا مع مصالي الحاج.
لكن موقف مصالي الرافض لاندلاع الثورة في أول نوفمبر، دفع باوعمران وكريم بلقاسم للالتحاق بالثورة، وتم ضم كريم بلقاسم إلى الخمسة قيادي الثورة فأصبحت القيادة تضم الستة (محمد بوضياف، مصطفى بن بولعيد، رابح بيطاط، ديدوش مراد، العربي بن مهيدي، كريم بلقاسم).
بعد ذلك تم توزيعنا على النواحي التي تم التعيين على مستواها، فكنت أنا وكل من بن طوبال وزيغود يوسف عن الشمال القسنطيني (الولاية 2).
وجدت 17 مناضلا الكل ينتظر الساعة الصفر من الفاتح من نوفمبر لإندلاع الثورة ورفع السلاح في وجه العدو، في 20 أكتوبر 1954 اتصل بي ديدوش مراد وقال لي هذه المنطقة تضم إلى بن طوبال وأنت تتوجه إلى عنابة.
قبلت العرض، واتجهت إلى عنابة، عند محمود راشدي وهو من أنصار الحركة الوطنية، رجل متصوف إلى درجة كبيرة جدا، بدأت في الاتصال بالمناضلين عن طريق الشيخ راشدي، أين استقدمت معي بيان أول نوفمبر نسخة منه سلمها إلى ديدوش مراد. اتصلنا كذلك بالمجاهد عبد الكريم سويسي الذي كان مناضلا في حزب الشعب مع المركزيين، فتم إعادة نسخ بيان أول نوفمبر وتعليقه ليلة اندلاع الثورة.
كيف اندلعت الثورة في عنابة ليلة الفاتح من نوفمبر؟ وما هي العمليات التي تمت تحت قيادتك آنذاك؟
في الليلة التي سبقت ساعة الصفر من الفاتح من نوفمبر، تهاطلت بولاية عنابة كميات كبيرة من الأمطار، أردنا أن ننجز العديد من العمليات، كان بالجسر الأبيض وادي به كميات كبيرة من الفرنان، فأردنا أن نحرق أشجار الفرنان ليلة الفاتح من نوفمبر، العملية الثانية، كان هناك مصنع لصناعة الأقمشة تابع إلى الإدارة الاستعمارية في (سيتي بونة).
قررنا أن نحرق المخزن المحاذي لها المصنع، حاولنا حرق الفرنان لم يحترق بسبب الرطوبة بفعل تساقط الأمطار، طلبنا من احد المجاهدين الذين معنا، كان يرتدي قشابية أن ينزع سرواله وإشعال هذا الفرنان بالسروال.
العملية الثانية لم تتم لأن المخزن الذي أردنا حرقه كان في تلك الليلة فارغا، فرمينا العديد من الزجاجات الحارقة وانتظرنا اندلاع الحريق لكن لم نرى شيئا، بعد ذلك عرفنا من مصادرنا أن المخزن كان فارغا، وجهنا جماعة أخرى إلى رادار البوزيزي، لقطع الكوابل عن هذا الرادار.
ما هي الذخيرة التي كانت بحوزتكم؟
كانت تقريبا خمس قطع سلاح في حالة يرثى لها، فوشي بالمسمار، وبندقية ألمانية، ومسدس.. كلها مجتمعة لا تتجاوز خمس قطع، وليست أسلحة حرب، جمعناها من طرف العديد من المناضلين.
حقيقة كان الإيمان هو الذي يحركنا، الإمكانيات كانت محدودة جدا، إن لم نقل غير منعدمة إطلاقا، كانت القضية الأولى بالنسبة إلينا هي وضع الشعب أمام الأمر الواقع وإعلان الثورة، كان الهدف الأكبر هو توحيد كلمة الشعب ومواجهة الاستعمار هذا أسمى هدف بالنسبة إلينا، والحمد لله اندلعت الثورة وزاد مؤيدوها في الداخل والخارج، إلى أن كللت بالاستقلال الذي تنعم به الجزائر إلى حد اليوم.