تعتبر الاغنية الثورية موروث ثقافي وتاريخي، رافقت بطولات ونضال الجزائريين ابان ثورة التحرير، التي تعددت فيها وسائل الكفاح والهدف واحد ألا وهو استقلال الجزائر.
صدحت بها حناجر النساء ابان ثورة التحرير
عندما نقول الاغنية الثورية نقول المرآة فهذا النوع الغنائي الثوري الشعبي مرتبط بشكل وثيق بالمرأة في مختلف مناطق الجزائر التي كانت تجاهد من اجل استقلال الجزائر، وهذا ما لمسناه خلال حديثنا مع العديد من المجاهدات في قرية اغيل ايمولا”، التي ما تزال حناجرهن تصدحن بأجمل السينفونيات الغنائية، التي توثق بطولات وكفاح الرجال والنساء، ناهيك عن الاوضاع المزرية، التي عايشوها تحت وطأة الاستعمار الفرنسي الذي تفنن في اساليب التعذيب، كما صورت النساء عبر هذه الاغاني الثورية احلك المعارك التي خاضها المجاهدون ضد جنود الاستعمار الفرنسي.
الاغاني الثورية جسدت تاريخ الثورة المجيدة بأعمق الصور فلم تترك اي تفصيل إلا وحكته من خلال ابيات شعرية ملحنة بحناجرهن فقط، لتحكي قصص التعذيب، وصور خروج المجاهدين والتحاقهم برفاقهم في الجبال، ناهيك عن قصص وبطولات زعماء الثورة أمثال الشهيد عميروش”، الذي تناقلت الألسن قصة كفاحه عبر اغاني انشدتها النساء، وتناقلتها عبر مختلف القرى لتكون احدى الاغاني الثورية المشهورة في منطقة القبائل.
الحديث عن الاغنية الثورية في منطقة القبائل دفعنا الى استنطاق جعبة نساء المنطقة اللائي عايشن فترة الاستعمار وهن فتيات صغيرات وشابات في مقتبل العمر، حيث صرحت المجاهدة “فاطمة بوشتة”، ان انتشار هذا النوع الغنائي والأنشودة الثورية تعود الى تناقلها الشفهي بين النساء، حيث لم تكن النساء متعلمات في تلك الفترة.
وتضيف انه خلال اندلاع ثورة التحرير كان المجاهدون يتنقلون بين القرى والاعراش في مختلف المناطق ، رفقة البعض من النساء في خرجاتهم وتنقلاتهم، وعندما يصلن الى القرى وبعد الانتهاء من الاشغال الموكلة اليهن من “التزود بالمياه، تحضير الطعام وغسل الملابس”، يجلسن في الساحة من اجل الحديث فيما بينهن، وهن ينشدن الاغاني الثورية التي تعلمنها، وهذا ما يخلق التعارف بين نساء مختلف الاعراش والقرى، لينتقل هذا الموروث التاريخي ما بين النساء.
الاغنية الثورية حسب تصريحات “النا فاطمة”، هي عبارة عن اناشيد تشجيعية للمجاهدين الذين يحملون السلاح على اكتافهم من اجل الجهاد وتحرير الجزائر، هؤلاء المجاهدون الذين يواجهون الموت يوميا في الجبال والغابات، ولهذا تأتي هذه الاغاني من اجل منحهم الشجاعة والقوة وهم يغادرون درياهم تاريكين ابنائهم وإخوتهم الصغار، ولا يعرفون ان كانوا سيعودون او يستشهدون في ميدان الشرف، و لصعوبة تلك اللحظات تطلق النساء العنان لحناجرهن من اجل التعبير عن شعورهن وأحاسيسهن بشكل خاص ازاء تلك اللحظات.
وإظهار الظروف المزرية، التي تعيشها يوميا من فقر وقلة الإمكانيات لتكون بمثابة وسيلة تعبيرية ساهمت في كتابة الثورة كونها تعطي بصدق الصورة الحقيقية للثورة الجزائرية، وتخليدها في الذاكرة الجماعية لتتحول مع مرور السنوات الى معلم من معالم المقاومة ابان ثورة التحرير.
ومن بين هذه الأناشيد:
الجاير فلاغ أعزيزث إدمن ناغ فلاس أوزلن
نحياسيد سدم شوهدا فلاس اغلين
لعلام يسهزوث واضو نكني انفراح
قار اوزقزاو ذو ملال ذاقور ذصاح
انلي سذرار درابو ثسرافيرف انزوخ اتاس
يرحم الشهداء فلاس اغلين
الجزائر عزيزة علينا دماءنا سالت لاجلها
احييناها بالدم الشهداء سقطوا لأجلها
العلم تهزه الرياح و نحن نفرح
بين الاخضر والابيض هلال حقيقي
نصعد للجبل العلم يرفرف نفتخر كثيرا
الله يرحم الشهداء عليها استشهدوا
“النا فاطمة”، اعطت صورة جمالية ومعبرة لكفاح المجاهدين وتضحياتهم في سبيل الحرية، حيث روت انه في احد الايام قصد المجاهدون القرية من اجل الراحة وتناول الطعام، حيث قضوا ليلتهم في احدى المنازل في الوقت، الذي تكفلت هي رفقة مجموعة من النساء بتوفير كل ما يحتاجونه من ماء وطعام، وملابس نظيفة، وفي صباح اليوم الموالي وقبل مغادرتهم المنزل باتجاه الجبل.
جمع قائد المجموعة النساء رفقة المجاهدين اين شكل المجاهدون صفا، والنساء صفا في الوقت الذي بدأ القائد يتجول بين الصفوف وهو ينشد انشودة ثورية تشجيعية وتحفيزية على القتال، وهي الانشودة التي رددها الجميع وبعدها صفقوا عاليا وهم يودعون أهاليهم ليقمن بعد ذلك بتتبعهم خارج المنزل من اجل اخفاء اثار اقدامهم باستعمال المكنسة التقليدية او اغصان الأشجار.
هذه الاحداث التاريخية التي ما تزال جعبة “النا فاطمة “، تحتفظ بها الى يومنا هذا، كما تحتفظ بكم هائل من الاناشيد الثورية التي اعادت غنائها على مسامعنا كأنها تعلمتها اليوم، وهي تردد عند تذكري لهذه الاغاني تشعرني برغبة في البكاء، كيف لا وأنا ما زلت اتذكر توديعنا للمجاهدين في كل لحظة يغادرون فيها المنازل من اجل القتال والجهاد في سبيل الوطن.
الاغنية الشعبية الثورية في منطقة القبائل تتسم بسحر خاص حيث ألمت بمختلف الجوانب ابان ثورة التحرير” النفسي ، السياسي، الاجتماعي، العسكري “، تمكنت من زرع الفكر الثوري وبث الحماس في اوساط الثوار ونفوس السكان الذين كانوا درعا حامي للمجاهدين، كما صورت بطولات وأمجاد الأبطال، ناهيك عن تسجيل الوقائع التاريخية والتغني بالبطولات والتضحيات.
بعد مرور 69 سنة عن اندلاع ثورة التحرير المجيدة، ما تزال هذه الاغاني الثورية شاهدة على تلك الحقبة التاريخية الهامة في تاريخ الجزائر، إلا انه في الاونة الاخيرة فهي مهددة بالاندثار، في ظل رحيل العديد من المجاهدات او النساء اللائي يحملن في جعبهن هذه الاشعار والأناشيد، دون كتابتها او تدوينها، ما يهدد باندثار وزوال هذا الموروث الثقافي التاريخي، الذي اعطى صورة حقيقية لتاريخ الجزائر بعيون من عايشوه، وعليه وجب اليوم على المؤرخين والأكاديميين العمل على كتابة هذا الموروث المفعم بالوطنية والذي يحمل اسمى معاني التضحية، ليبقى راسخا في الذاكرة الشعبية وتتداوله الاجيال.