محمد العربي بن مهيدي: ”يجب أن يكون لدوي ثورتنا صدى في جميع أنحاء العالم”
تصدرت “أحداث“ أول نوفمبر كما سمتها الصحافة الفرنسية عناوين الصحف الاستعمارية وصحف البلدان العربية وكذلك معظم الصحف الدولية.
استيقظ الجزائريون صبيحة أول نوفمبر، منهم من هو فخور ومنهم من هو حائر وقليل منهم غير مبال.
اكتشف الخناشلة (نسبة إلى خنشلة) تصدّر اسم مدينتهم كل الصحف الاستعمارية، لقد أصبحت مدينتهم في قلب أول ثورة وطنية، كما اكتشف الجزائريون في نفس الوقت وجود هذه البلدة الصغيرة المغمورة، التي تربط بين جبال الأوراس وجبال النمامشة، أين انطلقت الشرارات الأولى لثورة التحريرية، هذه الثورة التي سوف تضع حدا للحكم الاستعماري الذي دام لأكثر من قرن.
هذه المدينة غير المعروفة بالنسبة للكثيرين، مع أنها كانت في وقت مضى مدينة ذات أهمية كبيرة وذات موقع إستراتيجي، تقاطعت فيه أحداث هامة من تاريخنا الوطني.
كان من المفروض أن يتصدّر عناوين صحف هذا اليوم خبر الانتخابات في الولايات المتحدة، أو أي حدث كبير، كإعادة توحيد الألمانيتين مثلا، أو حتى خبر تتويج الملكة Marie من قبل Pie الثاني عشر، لكن حدث أول نوفمبر بالجزائر، اعتبر أهم من ذلك كله وفرض نفسه في احتلال الصدارة، لقد ترك أثره في العقول وأيقظ الضمائر والمشاعر.
هذه بعض العناوين الصحفية التي كتبت عن “الحدث” الذي هو في الحقيقة بداية ثورة.
ـ جريدة “La Dépêche de Constantine”: “سلسلة من الهجومات الإرهابية في الجزائر، ومقتل ضابط وجنديين في خنشلة وباتنة”.
ـ “جريدة “Le Monde”: “مقتل العديد من الأشخاص خلال هجومات مسلّحة متزامنة استهدفت مراكز الشرطة بالجزائر”.
ـ جريدة “France Soir”: “ظهور مفاجئ للإرهاب بالجزائر”.
ـ جريدة ” Le Figaro”: “الأوراس في حالة تمرّد”.
ـ جريدة “Paris Presse”: “ثلاثون هجوما هذه الليلة بالجزائر”.
ـ جريدة “Echo d’Alger”: “ثلاثون هجوما إرهابيا في وقت واحد بالجزائر”.
ـ جريدة “le Journal d’Alger“: “سلسلة من الهجومات الإرهابية أمس بالجزائر، بعد الفلاقة، الإرهابيون.. لا بد من اتخاذ إجراءات عاجلة”.
ـ جريدة “La Dépêche Quotidienne”: “إرهابيون ينشطون بمناطق مختلفة بالجزائر”.
ـ جريدة” L’Echo d’Oran”: “ليلة الأحد إلى الاثنين من “خنشلة” إلى “كاسينى” هجومات إرهابية بالتراب الجزائري”.
شرعت الصحافة الفرنسية في تحليل “الأحداث”، ابتداء من اليوم الثاني من شهر نوفمبر، حيث اعتبرتها “مجرد عمل قامت به مجموعات صغيرة تعمل بشكل منعزل وبطرق بدائية، هذا في المدن الكبرى، أما في منطقة الأوراس فإن هذه الأحداث أخذت شكل التمرّد الحقيقي، لكن القاسم المشترك بين هذه الأعمال، هو أن كل هذه العمليات العسكرية تمّت في وقت واحد وشملت كل التراب الوطني، وهذا دليل على أننا أمام عمل منظم ومدروس” (1).
تفاجأ السكان صبيحة أول نوفمبر بـ”خنشلة”، بالعدد الهائل من الجنود الذين راحوا يجوبون المدينة على سيارات الجيب والشاحنات، وتضاعف عدد الاعتقالات بين المواطنين.
قال البعض: “يريدون محاربة فرنسا بالعصي والحجارة! إنهم مجانين.
البعض الآخر قالوا: “داروها يابورب” أي: لقد فعلوها يا الله!.
هذا يعني أنهم انتقلوا إلى الفعل، يا لها من جرأة!.
أما بالنسبة لأغلبية السكان، فقد أخذوا يتساءلون عن سبب وجود هذا العدد غير المعتاد من الجنود.
صادف اليوم الثاني من شهر نوفمبر يوم الثلاثاء، وهو يوم السوق الأسبوعي بمدينة “خنشلة”، كان الجو باردا والأمطار تتساقط بكميات شحيحة، أعادت الأمل للفلاحين في بداية حملة الحرث بعد طول انتظار.
معظم المتسوقين والفلاحين يلتحفون برانيسهم أو قشابياتهم، كانت رؤوسهم ملفوفة داخل شاش أبيض أو قريب من البياض، بعضهم يقف بجانب مواشيه وسط الضوضاء والضجيج، وهو خليط من خوار البقر وصهيل الخيول وثغاء الأغنام، بالإضافة إلى صراخ التجار والمداحين، هرج ومرج لا يمكن وصفه، كل هذا مضاف إليه تلك الروائح الغريبة المكونة من براز وأنفاس مختلف المواشي ومن روائح التوابل والأعشاب الموسمية.
حتى أن درجة البرودة بدأت تخف من شدة ذالك الازدحام وتلك الحرارة التي كانت تنبعث من أنفاس الأبقار والأغنام والخيول، وكذا الحركة العشوائية المستمرة للمتسوقين.
كل هذا لا يعبر عن جو السوق المعتاد، فالوجوه كانت متجهمة والعيون حائرة، مما يعبّر عن مدى القلق السائد هذا الصباح، المتسوقون يتجنبون الحديث عن هذه ”الأحداث”، ففي الواقع كانوا يجهلون حقيقة ما يجري، يضاف إلى ذلك الخوف من العساكر المحيطة بالسوق والمدججة بالأسلحة وهي على أهبة إطلاق الرصاص.
القوات الفرنسية توقف وتفتش الجميع بدون استثناء، بعض الأشخاص تمّ اعتقالهم وصودرت أوراق هوياتهم، لقد ساد الخوف والقلق، بعض هؤلاء المعتقلين أخذوا يتساءلون عن سبب اعتقالهم، أما البعض الآخر من نشطاء حركة الانتصار للحريات الديمقراطية “MLTD” خمنوا سبب ذلك بسهولة.
بعيدا، وفي مكان آخر بالجزائر العاصمة مثلا: “كان أول نوفمبر بالنسبة للمواطن الجزائري البسيط، يمثل يوما كباقي الأيام التاريخية التي لم يقدر أو يستوعب حجمه كبداية لحدث.. كذلك الأمر عندما أعلنت الصحافة الفرنسية في عناوينها الكبرى عن سلسلة الهجومات التي وقعت صبيحة الفاتح من نوفمبر 1954، في مختلف أنحاء الجزائر. كانت ردود الأفعال مختلطة ومتباينة.
ساد الارتياح في أوساط الشباب المتشبعين بالأفكار الوطنية، في حين كان القلق والتخوّف عاما بين الإطارات السياسة التقليدية، فهم يعلمون وبالتجربة كيف يتمّ قمع كل ثورة في كثير من الأحيان بوحشية على حساب الآلاف من الضحايا الأبرياء.. أما بالنسبة للأوروبيين، فقد تحوّلوا من موقف السخط إلى موقف الغضب.. عند هؤلاء جميعا يجب القول، إن هناك سؤال يفرض نفسه ويبقى مطروحا دون إجابة: من الذي قام بهذه الحركة، بهذا القدر من التنسيق والتنظيم إلى درجة أنها صدمت وسلبت كل الانفس.
حياة الكرامة والشرف
بالرغم من أن النتائج المادية لهذه العمليات لم تكن في مستوى توقعات قادة الثورة، إلا أن العناوين الضخمة التي غطت هذا الحدث في الصحافة الاستعمارية كانت في حدّ ذاتها انتصارا كبيرا في نظر المبادرين لهذا العمل المسلح، زيادة عن العناوين التي نشرت في الصحافة العربية والدولية، وسمحت بأن يسمع صوت الجزائر في كل مكان في الجزائر وفرنسا وفي كل أنحاء العالم!
الآن فقط، يمكن للوفد الخارجي لجيش وجبهة التحرير الوطني أن يتحدث وهو مرفوع الرأس عن قضية الجزائر، ويرفع مشعل الثورة وصوت الجزائر عاليا.
سمع صوت الجزائر من خلال معظم الإذاعات في العالم، في القاهرة أعلن في إذاعة “صوت العرب” عن بداية الثورة التحريرية: “على الساعة الواحدة صبيحة هذا اليوم بدأت الجزائر تعيش حياة الكرامة والشرف“.
لقد تمّ أخيرا وضع خط للمسار الثوري، وأعطيت إشارة الانطلاق بإشعال فتيل الثورة.
هجومات عديدة وقعت في أماكن مختلفة، حوالي ثلاثين هجوما، وفقا لما أوردته الصحافة الفرنسية آنذاك، لكن عددها كان أكثر بكثير، أي ما يقارب 70 عملية مبرمجة ناجحة بنسب متفاوتة (بعض العمليات لم تنفذ)، والأهم أن معظمها نفذ بالفعل، لقد رسم أخيرا خط الانطلاق لهذه الثورة، وخط القطيعة النهائية مع الاستعمار.
اعتبرت السلطات الاستعمارية في الوهلة الأولى هذه العمليات مجرد تمرد قبلي محلي، كما كان الحال في الثورات السابقة، لكنها كانت مخطئة، فقد أدركت لاحقا أن الأمر ليس كذلك هذه المرة، وهذا مقتطف من تقرير الجنرال “Cherriere” يوضح فيه هذه الرؤية “… إن الجيش يعتقد أنه في مواجهة مشكلة سبق له التعرّض لها في شمال أفريقيا منذ عقود، وهو قمع متتالي لتمردين محصورين في منطقتي (الأوراس والقبائل الكبرى)، لخصم نسبيا قليل العدد والعدة، سطحي ومحبط، وبارع في حرب العصابات.. النتائج الفورية جعلتنا نعتقد في الوهلة الأولى أننا أمام انتفاضة قبليه مماثلة لتلك التي ميزت تاريخنا في شمال إفريقيا..”.
في “خنشلة”، بالرغم من أن النتائج لم تكن في مستوى توقعات عباس لغرور ورفاقه، إلا أن ما حدث بالمقارنة بما حدث في مدن أخرى اعتبر نجاحا عسكريا وإعلاميا كبيرا، فقد قتل ضابط (أول ضابط ضحية حرب التحرير في صفوف الجيش الفرنسي)، كما تمّ قتل جنديين، وتكبيل أعوان الشرطة وتجريدهم من أسلحتهم، بالإضافة إلى تصدر اسم “خنشلة” العناوين الأولى للصحافة الاستعمارية.
فيما بعد، انتشر أوائل ثوار “خنشلة” نحو الشرق، نحو نواحي “مسكانة” و”تبسة” و”سوق أهراس” والشمال نحو نواحي “عين البيضاء” و”الخروب” و”قالمة”، حيث أصبح “شعبان لغرور” شقيق “عباس لغرور” قائدا لهذه المنطقة والمسئول الأول عنها، أما نحو الغرب فقد تمّ ربط الاتصال بثوار نواحي “باتنة”، “أريس”، “بوحمامة”، كما امتد نشاطهم نحو الجنوب إلى نواحي “ششار” و”بابار” و”تبردقة” و”خنقة سيدي ناجي” و”بسكرة”.
بعد عدة أشهر عمّت الثورة كل نواحي أوراس – النمامشة، وتعدتها إلى نواحي بعيدة مثل: “سطيف” و”مسيلة” و”بوسعادة”، وإلى أقصى الجنوب. تجدر الاشارة إلى أنه نظرا لأهمية موقع ناحية واد سوف الاستراتيجي في نقل السلاح طلب بن بولعيد عدم القيام بأي عمل عسكري هناك. لقد بدأت الحرب، إنها حرب حقيقية ستستمر لقرابة ثمان سنوات.
تفاجأت الأحزاب السياسية والجمعيات الجزائرية واندهشت لما حدث، فراحت تترقب ما ستؤول إليه الأحداث وتنتظر عواقبها ونتائجها.
كثير من نشطاء الأحزاب المختلفة اعتقلوا، خاصة مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية “MLTD”.
إن ما حدث هو التتويج المنطقي لأكثر من قرن من المقاومات والانتفاضات المتتالية منها “الأمير عبد القادر” و”الشيخ الحداد” و”بوعمامة” و”الزعاطشة” و”موحند أمزيان” بالأوراس عام 1879، انتفاضة الأوراس عام 1916، وأخيرا أحداث 08 ماي 1945، تلك التي أعلنت القطيعة النهائية مع فرنسا ومع أكثر من نصف قرن من المطالبة السلمية بالمساواة والكرامة والحرية.
كل مطالب التشكيلات السياسية والجمعيات التالية: “نجم شمال إفريقيا”، “أحباب البيان والحرية”؛ “جمعية العلماء المسلمين”؛ حزب الشعب الجزائري؛ حركة الانتصار للحريات الديمقراطية “MLTD”، لم تجد آذان صاغية من طرف فرنسا والمعمرين، فقد بقيت آذانهم صماء أمام المطالب السلمية.
حفنة من الناشطين، ابتداء من المنظمة السرية OS، ثم اللجنة الثورية للوحـدة والعمـل “CRUA”، وأخيـرا جيش وجبهـة التحرير الوطنـي FLN-ALN اتخذت قرار ها باللجوء أو الانتقال إلى العمل المسلح باعتباره اللغة الوحيدة التي سيفهمها المستعمر.
ردود أفعال المواطنين والطبقات السياسية والجمعيات
راح المواطنون الجزائريون العاديون يتساءلون عن هذا الكم الهائل من الجنود المنتشرين في الطرقات والشوارع، أما الآخرون الذين يستطيعون تصفّح الجرائد، فقد أدركوا أن شيئا خطيرا يجري، ذلك لأن تلك الهجومات التي وقعت شملت مناطق متعدّدة من الجزائر بالشرق والوسط والغرب.
أما الأوروبيون فكانوا يعتقدون أن هذا مجرد عمل “إرهابي” لجماعات متواجدة أساسا بمنطقة الأوراس.
العديد من القادة السياسيين ورؤساء الجمعيات وبعض المواطنين لم يؤمنوا بما تهدف إليه هذه العمليات، وقالوا: إنهم مجانين .
إحدى أهم ردود الفعل، ما جاء على لسان “عبان رمضان” إثر الإفراج عنه من السجن في شهر جانفي عام 1955، متحدثا عن “كريم أوعمران”، بعد أن التقى بهما، قال: “لقد طلبت منهم (أي من الثوار) تقييما كليا للوضع، وبعد أن اطلعت على التقرير الخاص بعدد المجندين ونوعية الأسلحة التي في حوزتهم، وكذلك إمكانياتهم المادية، قلت لهم إنني اعتبرهم مجرمين لأنهم أقحموا البلاد في مغامرة كبيرة وضخمة بموارد زهيدة كتلك التي عندهم، ثم عقبت على الأمر قائلا: أنا أساسا أفهمهم، ففي وضعهم كمحكوم عليهم بالإعدام، ليس لديهم ما يخسرونه، وانضممت إليهم في هذه المغامرة“.
بلغ أمر التشكيك إلى أن بعض المناضلين الأكثر خبرة لم يكونوا على اقتناع تام بالعمل الثوري، فهذا “عبان رمضان” مثلا لم يكن مقتنعا بالإمكانيات الزهيدة التي واجه بها مفجرو ثورة الفاتح من نوفمبر 1954، القوة الاستعمارية الفرنسية! لقد أخطأ مثلما أخطأ في اعتبار كل مفجري ثورة نوفمبر. من المحكوم عليهم بالإعدام،
وبمجرمين. لم يكونوا مجرمين.. لم يكونوا جميعا كما محكوم عليهم بالإعدام.
قبل إلقاء الضوء على ردود أفعال الأحزاب السياسية والجمعيات، ندرج هذه الشهادة لأحد مناضلي الحركة الوطنية تشرح وضع وموقف الطبقة السياسية قبل شهر نوفمبر 1954: “… قبل عام 1954، كان هناك اتجاهين سياسيين متعايشين في الجزائر: الأول وطني يطالب بالاستقلال، ويمثله حزب الشعب الجزائري PPA، وكان يطالب بالاستقلال التام عن فرنسا، والثاني إصلاحي كان يؤيد فكرة الاندماج مع المطالبة ببعض الحقوق المدنية، كان يضم كل من “جمعية العلماء المسلمين، UDMA، وPCA واتحاد المنتخبين وبعض الشخصيات الحرة، بالإضافة إلى كون هؤلاء يؤيدون فكرة الاندماج، واقتصرت مطالبهم على تحسين المستوى المعيشي للجزائريين، كما كانوا يندّدون بالتجاوزات التي يقوم بها وكلاء الإدارة الاستعمارية خاصة، القياد والباش اغاوات. ” يستمر ليسرد مواقف هذه الأحزاب فيكتب: “إنه تلاعب بذيء بالحقيقة التاريخية، لما ينسب استعادة الوعي لدى الشعب الجزائري لهؤلاء الإصلاحيين ويتمّ اعتبارهم مبادرين مباشرة أو غير مباشرة من قريب أو من بعيد بإشعال فتيل الثورة..
للتذكير هاهي بعض المطالب المدرجة ضمن برنامج هؤلاء الإصلاحيين:
ـ UDMA: المطالبة بحكم ذاتي تمارس فيه السلطة من قبل نخبة معينة مختلطة: الجزائريون والأقدام السوداء.
ـ أما برنامج “أحباب البيان” فقد تمّ رفضه واعتبره غير واقعي، لهذا السبب تمّ التخلي عنه.
كما رأت “جمعية العلماء المسلمين” من جهتها أن استقلال الجزائر ”وهم وحلم“، وكانت تدعو لمحو الأمية وتعميم اللغة العربية.
ـ اقتصرت مواقف PCA على السعي من أجل محو الفوارق الاجتماعية، والتنديد بالتجاوزات والانتهاكات المرتكبة من طرف الإدارة الفرنسية وأتباعها، ففكرة الانفصال عن فرنسا كانت أمرا غير مطروح البتة في الوقت الحالي.
ـ اتحاد المنتخبين والشخصيات المستقلة كانوا يسعون جاهدين من أجل تحسين الوضع الاجتماعي..”
إن ردود فعل الأحزاب لم تكن في البداية مشجّعة بالنسبة لرجال نوفمبر، فبالنسبة لحزب” UDMA” كان رئيسه “فرحات عباس“: يعتبر الكفاح المسلح مجرد خيبة أمل، فوضى ومغامرة. فبالنسبة له هو إعادة لإحداث مايو 1945، التي ندّد بها.
إن تزوير الانتخابات في أفريل 1955 أيقظ “فرحات عباس” من أحلامه وأقنعته بأن الحاكم العام “سوستال” ليس بمقدرته إقناع الأوروبيين بقبول التغييرات، بل هو فقط يحاول استدراج الجزائريين والتلاعب بهم من أجل عزل “حزب جبهة التحرير الوطني“.
أما بالنسبة للمركزيين : “كانوا يجعلون دائما من اتحاد كل الوطنيين، حتمية للكفاح المسلح، فبعد أن تمّ تبليغهم بأن يوم 15 أكتوبر هو تاريخ اندلاع الثورة، قامت اللجنة المركزية بتكليف كل من “حسين لحول” و“أمحمد يزيد” بالذهاب إلى القاهرة، لدعم “بن بلة” وإقناعه بضرورة جعل فكرة الكفاح المسلح مشروطة بتحقيق المؤتمر الوطني الجزائري..
ففي أول نوفمبر، اعتبر المركزيون هجومات الفاتح من نوفمبر مغامرة، كما توقعوا تراجعا في الحركة الوطنية، وتحت وقع هذه الظروف وجد كل من “لحول” و“يزيد” نفسيهما مجبرين على البقاء في “القاهرة” لخدمة مصالح جبهة التحرير الوطني“.
بالنسبة لجمعية العلماء المسلمين: “من بين كل الاتجاهات الوطنية في الجزائر، كانت جمعية العلماء المسلمين آخر من حدّد موقفه، في الفاتح من نوفمبر 1954 طلب “أحمد بن بلة” من “الشيخ البشير الإبراهيمي” دعوة الجزائريين للمشاركة في الكفاح المسلح لكن هذا الأخير رفض الفكرة تماما.
كما امتنعت جمعية العلماء المسلمين في الجزائر العاصمة عن التعليق عن هذا الحدث، واختارت التحفظ والحياد: “في هذا الوقت الحالي ليس لدينا أي معلومات مفصلة ومرضية ولهذا لا يمكننا الإدلاء بأي تعليق.. بالطبع ليست “البصائر” من سمحت لنفسها بإجراء خطوة جريئة في هذا المجال“.
في جانفي 1955، دعت جمعية العلماء المسلمين إلى تجمّع شعبي جزائري في مسيرة تضمّ جميع المنظمات والشخصيات المستقلة والمعروفة بتعاطفها مع القضية الجزائرية، هذه المبادرة التي تتعارض تماما مع الأهداف المسطرة من قبل جبهة التحرير الوطني، تشبه في بعض الحالات نداء المركزيين في الثاني من نوفمبر 1954″.
بالنسبة لـ: PCA فباسم مبادئه المتمثلة في تمثيل العمال، فنّد ادعاء جبهة التحرير التمثيل والتحدث باسم كل الأمة، تحت وطأة الظروف، وفي بيان مؤرخ في الثاني من نوفمبر 1954، وجد PCA نفسه مجبرا على تحديد مواقفه الأساسية حول القضية الجزائرية، مع ملاحظة عدم تواجد أي إشارة لمطلب صريح بالاستقلال.. بيان كهذا كان هو بحدّ ذاته موقف صريح ضد هذا المطلب“.
على غرار الحزب الشيوعي الفرنسي، فلقد انتقد الحزب الشيوعي الجزائري “أنصار العنف “، أما مناضلو الحزب بمنطقة الأوراس، فلم يتأخروا عن لالتحاق بالثوار”. في الحين اتصل شيوعيو الأوراس قروف والعمراني بمصطفى بن بولعيد“.
وأمام ردود الأفعال هذه، واصل ثوار نوفمبر طريقهم من أجل نشر الوعي وتحسيس الشعب الجزائري بضرورة الكفاح المسلح، كما واصلوا سلسلة الهجومات على المراكز العسكرية، وعمليات تنفيذ الكمائن ضد الجيش الفرنسي. إنها اللغة الوحيدة التي يفهما المستعمر. لقد تطلّب الأمر أكثر من سنة ونصف السنة، ليقتنع مجموع الأحزاب السياسية وجمعية العلماء المسلمين بالانضمام سياسيا إلى صفوف الثوار، وليضموا صوتهم إلى الوفد الخارجي لقيادة الكفاح.
“رعد في سماء صافية“
كما تمنى “العربي بن مهيدي” وصرّح ، وصل صوت وصدى الثورة الجزائرية إلى جميع أنحاء العالم. فقد وصف العديد من المؤرخين والصحفيين الفرنسيين عمليات أول نوفمبر بضربة “رعد في سماء هادئة“.
عرفت “الأحداث” كما سمتهم الصحافة الفرنسية تأييدا وترحيبا كبيرا في الدول العربية، خاصة من قبل الشعوب، أما تونس والمغرب، فقد أعلنتا عن استعدادهما لدعم الثورة الجزائرية وجعلها ثورة مشتركة في إطار جيش التحرير المغاربي الذي كان قد نسق له رواد الحركات الوطنية، وبلغ مرحلة التوحيد من أجل كفاح مشترك، لكن تمّ إجهاضه من طرف فرنسا كما سنرى فيما بعد.
أبلغ الوفد الخارجي الجزائري في مصر الرئيس “جمال عبد الناصر” عن نية الجزائريين في إشعال فتيل الثورة، خصوصا وأن مصر كانت مستعدة لدعم الثورة، لكنها فقط كانت تشكّ في قدرة الجزائريين على تفجيرها.
بعد اندلاع الثورة تساءلت فئة من مجلس الثورة المصري، عن مدى نجاح أي عمل مسلح تقوم به مجموعة صغيرة من الرجال وبأسلحة قليلة وبدائية ضد بلد مثل فرنسا المدعومة من حلف شمال الأطلسي.
لقد برهن الثوار على قدرتهم وتحدوا فرنسا والحلف الأطلسي وكل الشكوك التي أثيرت حول قدراتهم.
في البلدان الآسيوية مثل الصين والهند وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، كان التعاطف مع الأحداث بارزا، إذ بعد خمسة أشهر من أول نوفمبر، حضر الوفد الجزائري الخارجي في مؤتمر “باندونغ” لدول عدم الانحياز باندونيسيا، كان ذلك أول انتصار دبلوماسي كبير تمّ تحقيقه بفضل الفاتح من نوفمبر 1954، فقد فتح العمل المسلح الطريق واسعا أمام السياسيين ، لقطف أولى ثماره.
تجلت أهمية العمل العسكري بعد ذلك، في هجومات 20 أوت 1955، وفي معركة الجرف الكبرى في 22 سبتمبر 1955، حيث تمّ تسجيل القضية الجزائرية في الأمم المتحدة.
بعد سنة تحقق الهدف الذي ناضلت من أجله الأحزاب السياسية منذ عشرات السنين، أنه الطريق نحو الاستقلال.
تكمن عبقرية رجال نوفمبر في عدم عجزهم أو يأسهم أمام المواقف المحبطة للأحزاب السياسية وكاريزما قادتها. فقد كانوا واعين بأنهم يملكون وسائل ضئيلة وتقليدية، لكن إرادتهم كانت فولاذيه، كما جاء في بيان 1 أول نوفمبر 1954، “النضال سيكون طويلا، لكن النتائج ستكون مؤكدة“.
في اليوم التالي لأول نوفمبر، تراجع عدد من المناضلين، غادر بعضهم الجزائر للعيش في مأمن بعيدا عن ويلات الحرب، وغادر البعض الآخر الجزائر في مهمة إلحاق صدى الثورة دبلوماسيا إلى جميع أنحاء العالم، وتزويد المجاهدين بالأسلحة.
شنّت القوات الاستعمارية في اليوم التالي لأول نوفمبر هجومات شرسة على كل مناطق أوراس-النمامشة، ووقعت أول وأهم مواجهة للمجاهدين مع العدو، في 29 نوفمبر 1954، استشهد فيها البطل قرين بلقاسم. “لقد كانت هذه أول معركة للمتمرّدين الجزائريين بالقرب من أريس بالأوراس“.
وقعت أولى الطلقات في اوراس-النمامشة، لا يهم إن وقعت بخنشلة أو باتنة أو بسيدي علي أو ببوفاريك أو بعزازقة، المهم أنه تمّ إشعال الفتيل الذي تحوّل بسرعة إلى لهيب عم جميع أنحاء الوطن.
في هذا اليوم الأول كان عدد المجاهدين من رفاق بن بولعيد وعباس لغرور وعجول وشيحاني في أوراس-اللمامشة وفي مختلف أنحاء الجزائر، لا يتعدى 1000 مجاهد، معظمهم من المنطقة الأولى، لكنه سرعان ما تضاعف إلى الآلاف ثم عشرات الآلاف من المجاهدين والمجاهدات، المسبلين والمسبلات، يجوبون الجبال والسهول والصحاري في كل مناطق الجزائر وفي كل عواصم العالم، كل بسلاحه الخاص، في الداخل الكثير منهم واجهوا العدو مباشرة بشجاعة فولاذية وبكل قوة معنوية ومادية، فذهبوا بذلك إلى أبعد الحدود في التضحية وهي الاستشهاد.
لقد اهتزت الجزائر هزة عنيفة زعزعت إمبراطورية فرنسا الاستعمارية وأيقظت العديد من الشعوب المستضعفة، وكان مركز هذه الهزة جبال الأوراس وجبال النمامشة!
“يمكننا القول اليوم دون خوف من الوقوع في الخطأ، أنه لولا وجود “مصطفى بن بولعيد” لكانت محاولة التمرّد في الجزائر قد سلكت مسارا مختلفا، في حين كان على فرنسا آجلا أو عاجلا أن تعرف مشاكل كبيرة، لأنه في السياق الدولي، كانت البلاد لا محالة على طريق التحرّر وبالتالي الاستقلال، لكن غياب مركز لتفشي العصيان في الفاتح نوفمبر في الأوراس كان سيغير بالتأكيد طابع التمرد..”