الثورة التحريرية الجزائرية مدرسة عظيمة للشعوب التي كانت تئنّ تحت نير الاستعمار. استلهمت منها كثيرا من القيم الإنسانية ومعاني التضحية في سبيل الوطن، فكثيرهم الشباب الذين كانوا في مقتبل العمر لكن لم تلهيهم مفاتن الحياة وهم يرون شعبهم يعاني من مظالم الاستعمار، وهكذا كانت ثورة الفاتح من نوفمبر الخالدة ومازالت مرجعا تحرّريا تستند له شعوب المعمورة وتلقنه لأجيالها باستمرار.
الدكتور: هواري مختار
أستاذ محاضر جامعة باتنة 1
شاع في أوساط المتابعين لتاريخ الثورة الجزائرية 1954، أن من قاد الثورة هم سكان الأرياف والقرى، وهو أمر صحيح لحدّ كبير، وأن المدينة كان دورها ضعيف وهو أمر طبيعي بالنظر إلى تمركز الأجهزة الأمنية والعسكرية بها، ولكن في الآن نفسه، سار الاعتقاد أيضا أن العمل الثوري والفدائي قد اقتصر على مدينة الجزائر العاصمة فحسب، فيما سُمي بمعركة الجزائر، غير أن ذلك مجانب للحقيقة لأن كثير من المدن شهدت عمليات فدائية ولكن لم تنل حقها من الإعلام والتأريخ ومن بينها مدينة باتنة.
التنظيم الثوري لمدينة باتنة عشية الثورة
يعلم الدارسون للتاريخ أن نشاط الحركة الوطنية كان متمركزا في دائرة الأوراس (أريس القديمة) نظرا لكونها منطقة محصّنة وبها معظم أقطاب الحركة الوطنية الثورية، فمنها ينحدر مصطفى بن بولعيد ومسعود بلعقون وعاجل عجول والطاهر نويشي ومصطفى بوستة، وشبشوب الصادق وغيرهم، لكن رغم ذلك أدت مدينة باتنة دورا بارزا للإعداد للثورة وتفجيرها، وجعلها مصطفى بن بولعيد وشيحاني ورفاقه نقطة اتصال وتواصل.
فكما هو معلوم أنه في يوم 16 مارس 1953 وقع انفجار بمحل الإخوة مشلق في وسط مدينة باتنة أمام نادي الضباط وكانت المتفجرات مخبأة فيها للإعداد للثورة (محمد عجرود ص 50). وقد استطاع مصطفى بن بولعيد بعلاقاته مع رجال نافذين في العدالة الفرنسية من تسوية القضية، كما كان منزل مسعود بلعقون بالزمالة مقرا لبعض اجتماعات التحضير للثورة مثل الذي انعقد بتاريخ 30 مارس 1954.
كان نشاط الشباب الثوري بباتنة حسب ما يرويه المجاهد النوفمبري مسعودي محمد والذي كان مع الأفواج التي فجّرت الثورة في الفاتح من نوفمبر وكان مقيما بباتنة، أن أول من جنّده هو المدعو مصطفى بكوش، ثم عمل مع محمد رشيد بوشمال، علما أن قسمة باتنة قد استقال منها بوشكيوة يونس في 1 جوان 1954 ليتولاها بوشمال.
وكانت خلية باتنة حسبه تتشكل من أحمد بوشمال ومحمد حرسوس المدعو بوحة وعلي النمر وعبد الحفيظ عبد الصمد ومحمد الطاهر عبيدي المعروف بالحاج لخضر، علما أن عنصريين منها تأخّرا عن شرف اندلاع الثورة لأسباب مختلفة ليلتحقوا بالثورة بعد ذلك بقليل.
وتؤكد الوثائق الأرشيفية الفرنسية أن اللجنة السرية التي كانت عشية الثورة تتشكّل من بوشمال محمد رشيد وعبيدي لخضر ومسعودي محمد ومحمد حرسوس المدعو (بوحة) وبلعقون مسعود والعايب عمر والمعروف بالصبايحي، والذي كان يعرف الثكنة العسكرية ويمكن أن يساعد على نجاح عمليات الفاتح نوفمبر، كما كان مصطفى بن بولعيد في تواصل مع المدعو بوزيد عمار من سريانة وسعيدون محمد لأجل القيام بالتموين والدعاية للثورة.
كما أن شيحاني طلب من بوشمال أن يتحصّل على خارطة من بن ذياب محمد من القنطرة لاستعمالها لنجاح الأهداف العسكرية بباتنة، وكذا شراء الأدوية والملابس العسكرية ووضع تقريرا شاملا عن الوضعية السياسية، مع رسم مخططات دقيقة للثكنات ووضع قائمة بأسماء أعضاء الشرطة بمدينة باتنة، كان من المقرّر الهجوم على أهداف مدينة باتنة بواسطة الأفواج التي ستنقل من دار بولقواس بخنقة لحدادة بواسطة شاحنة على دفعتين الأولى وصلت والثانية بقيت على مشارف تازولت لتأخر وصولها.
كان من بين الأفواج التي هاجمت باتنة فوج الحاج لخضر وكانت وجهتهم الثكنة المركزية. وفي ليلة الفاتح نوفمبر بباتنة تمّ قتل العريف (أوجيت كوشي) والقناص (بيار أوديات) وهُجمت ثكنة الصبايحية، وكان هدف الثوار السيطرة على الذخيرة الحربية وهو الذي لم يحدث لتفطّن الجنود الفرنسيين.
ورغم أن عمليات باتنة التي كان يتمّناها مصطفى بن بولعيد بأن تكون أكثر نجاحا نظرا لعدم تنفيذ كل ما هو مخطط له، إلا أن أحداثها كانت لها تأثيرا كبيرا على الصعيد الوطني والدولي، وملأ خبرها صفحات الجرائد، وزرعت الرعب في أوساط المعمرين الفرنسيين، فأحداث المدينة دائما ما تُخلف أثرا بالغا أكثر من الريف الذي يعاني من تعتيم الجيش الفرنسي رغم الأحداث العظيمة التي جرت فيه.
نماذج من العمليات الفدائية
تذهب بعض الدراسات، أن العمليات الفدائية بباتنة قد بدأت باكرا، فبتاريخ 11 نوفمبر 1954 تمّت عملية فدائية بحرق مصنع لأحد الكولون القريب من مقر الجنرال بلانش، حيث تمّ إلقاء القبض على الفدائي صالح أوعبيد (بن زروال ص 307).
يذكر بدوره المجاهد عمار قرفي في مذكراته، أن أول خلية للفدائيين بباتنة شكّلها عبد الحفيظ عبد الصمد ولم يذكر لنا أعضاءها ولا تاريخ تأسيسها، ويذكر أن تاريخ الخلية التي نشط فيها كانت عند نهاية 1956، والمتكوّنة ـ حسبه ـ منه ومن أحمد بقة ومحمد نصيب الفدائي وأحميدة مناصرية وإبراهيم وهابي وعياش جومادي وموح طاويلو وعبد الله عبيد، ويذكر أن الأسلحة كانت تصلهم من الجبال في 1956 عن طريق المدعو جناس عيسى بأمر من الحاج لخضر.
إن كثيرا من الشهادات التي قدمها محمد نصيب تذكر أسماء الفدائيين والعمليات دون التدقيق في ذكر تواريخها، وخلال هذه الورقة البحثية سأحاول أن أعتمد على الوثائق الأرشيفية التي توصلت لها الاستعلامات الفرنسية، من خلال الاستنطاق أو عن طريق عيونها، وهي تحتوي على تواريخ العمليات الفدائية.
وهنا لا أدعي أنني سأفي مدينة باتنة تاريخها الفدائي، وإنما سأتطرّق لبعض من أحداثها خلال فترة وجيزة من خلال بعض الوثائق الأرشيفية التي تحصلت عليها من أرشيف ما وراء البحار “أكس أون بروفانس”.
تشير الوثائق الاستعلاماتية الفرنسية إلى نشاط الخلايا الفدائية في مدينة باتنة في أواخر سنة 1956 وبداية 1957، عن مجموعة العمليات الفدائية حيث شهدت المدينة عدة عمليات نذكر منها:
– قام الفدائيان غربي السبتي وبوليلة علي بوضع قنبلة في سينما (Regent) بتاريخ 12 أكتوبر 1956، وفي نفس اليوم وضع الفدائيان: دماغ محمد وقاضي عبد المالك قنبلة بمدرسة.
– وضع بتاريخ 15 أكتوبر 1956، كل من دماغ محمد وحيرش أحمد قنبلة في مآرب سيتروان.
– قام كل من سعيدي رشيد وشاوي عبد اللطيف المدعو كوكو بوضع قنبلة في مقر إقامة ( m , Grinal) بتاريخ 06 نوفمبر 1956.
– قام في 06 ديسمبر 1956 كل من دماغ محمد وقاضي عبد المالك وسعدي عبد المجيد بوضع قنبلة في حانة قيانوتي المسماة excelsier –bar.
– وضع بتاريخ 3 ديسمبر 1956 سعدي عبد المجيد ودماغ محمد قنبلة بمركز (PRG)، وكان الفدائيون يعتزمون وضعها في مصلحة الري أين يوجد مولد كهربائي يزود المدينة ولما لم يتمكنوا وضعوها بالمحلات المجاورة لـــ:(PRG).
وتذهب التقارير أن في 12 ديسمبر 1956، قام كل من بوهيدل مصطفى وبوعبد الله رشيد بإلقاء قنبلة يدوية على مكتب السيد قج اليهودي.
– قام في 30 ديسمبر 1956، محجوب مكي برمي قنبلة في ساحة الكنيسة.
كانت الخلايا الفدائية تستعمل أيضا الأسلحة البيضاء ضد بعض العملاء كعملية الفدائي جبالي رابح ضد المدعو ب..ة السعيد في 22 أوت 1956 وضد تمام جوداس في 13 ديسمبر 1956.
ومن العمليات الفدائية الناجحة تلك التي وقعت يوم 8 جانفي 1957 وعلى الساعة الثالثة وأربعين دقيقة وبحي موزلي بباتنة، حيث تمّ تصفية الدركي الفرنسي شانو رولاند من الفيلق العاشر للدرك والمولود في 28 أوت 1927 في تيزي غنيف مقاطعة الجزائر ابن لويس وشناق فرناند وعمره 30 سنة، حيث تمّ قتله من طرف فدائي برصاصة أصابته في مؤخرة عنقه، وقد قامت القوات الفرنسية بتمشيط المدينة واستنطاق كل من ألقت عليهم القبض.
تمكّن أعوان الاستعلامات الفرنسية إلى التوصّل لبعض الفدائيين، فقد تعرفت على الممون بالقنابل المدعو: معرف صالح .
وعرفت أن القنابل اليدوية كانت مخزنة بمحل المدعو: سفوحي مصطفى كما توصّلت التقارير الأمنية الفرنسية أن للمدعو: أعمامرة عبد القادر كشكا قرب الكنيسة هو محل للقاء المجاهدين وتخزين القنابل، وتمكّنت الاستعلامات الفرنسية من معرفة نشاط خلية الفدائيين المكونة من حيرش أحمد المولود بتاريخ 15 سبتمبر 1930 بدوار زوي ابن صالح بن دراجي وفاطمة، وهو عامل يومي ساكن بباتنة.
وسعيدي عبد المجيد المولود في 8 جانفي 1933، بباتنة ابن أحمد بن سعيد وملاخسو الطاووس عامل يومي يسكن بحي النوميديين. وأعمامرة عبد القادر. وحرسوس أحمد المولود بتاريخ 6 ديسمبر 1909 بباتنة بن صالح بن أحمد و البيضة روخة (خوخة) بنت صالح وهو عون مكتب الأشغال العمومية بحي شيخي.
وقد تحصل أعوان الاستعلامات الفرنسية على المعلومات من أحد الفدائيين المقبوض عليهم وبعد تعذيبه وهو بن عبد الله صالح بن عيسى المدعو قادري، والذي قبض عليه في أعمال ثورية بمدينة باتنة ذكر لهم الأشخاص الآتية أسماؤهم والذي يعلم نشاطهم فذكر المدعو: لكحل لخضر والذي يسكن بحي المجزرة أو في خيمة سوق الحلوى وعمره 30 عاما أصيل بريكة والذي ـ حسبه ـ قام بعدة عمليات فدائية منها قتله للإسكافي الإسرائيلي شيش بورتيش برصاصتين بتاريخ 4 جويلية 1957 بمدينة باتنة، كما قام بعدة عمليات برمي قنابل يدوية.
وأن المدعو س. حمو ساكن بحي المجزرة يستعمل شاحنة شيخي حيث ينقل بواسطتها المؤن والملابس إلى المدعو إسماعيل بعين ياقوت وهو المعروف بإسماعيل سلامي من سوق النعمان، وبدوره يسلم الأموال إلى المسؤول معاش أحمد (caom, 93201 // 31) وتوصّلت الاستعلامات الفرنسية أن شبكة التموين وجمع الأموال بباتنة كان من بينها بلعيد حمة والذي يسكن قرب المسجد المحاذي للملعب وهو يقوم بجمع الأموال، كما يساعده سائق سيارته المدعو السبتي.
وهناك أيضا المدعو همامي علي، كان عونا لجمع الاشتراكات والدعاية للثوار، كما تمّ ذكر المدعو: حسينات حمة والذي يملك سيارة الطاكسي وسائقه يقوم بنقل الأدوية للمجاهدين ورقم سيارته رقم 7.
ومعلوم أن عبد الله رضوان كان مسؤول مدينة باتنة بتاريخ 16 جويلية 1958 وكان مصطفى بالنوي مسؤول الناحية الرابعة من المنطقة الأولى أوراس النمامشة بالنيابة ومسعود عبيد مسؤول سياسي.
وفي أواخر سنة 1959، تشكّلت لجنة عسكرية خاصة ببلدة باتنة ترأسها صالح معطار والطيب معاش مسؤولا عن الأحياء، وفي جانفي 1961 تعزّزت البلدة بكومندو فكان المسؤول العسكري محمد نصيب والمسؤول السياسي عبد السلام بوشارب والمكلف بالاتصال والأخبار لحسن دماغ والمكلفان بالتموين محمد هلال ورشيد خلافنة (بن زروال ص304).
هذه بعض نماذج العمليات الفدائية لمدينة باتنة خلال فترة وجيزة دون الحديث عن كل فترة 1954- 1962 ولا على الإضرابات والمظاهرات التي شهدتها مدينة باتنة، والتي ساهمت في تعزيز العمل المسلح في الجبال وإحداث شرخ في أوساط المعمرين والجيش الفرنسي وعملائهم، كما نلفت الانتباه إلى أن هذه المعلومات على قدر أهميتها التاريخية فإنها تقتصر على سياق زمني ومكاني معين، حيث لا تسمح لنا معرفة الأشخاص المذكورين خارج ذلك السياق، كما أن تلك المعلومات مستقاة من طرف أشخاص تعرّضوا للتعذيب أثناء الاستنطاق، وبالتالي قد لا تكون كلها صحيحة، ورغم ذلك فهي مهمة للباحث في التاريخ للقيام بمقارنتها بالشهادات الحيّة والمذكرات للوصول إلى كتابة تاريخ المدينة النضالي.
مصادر ومراجع
1 – أرشيف ما وراء البحار أكس ـ أون – بروفانس.
2 – محمد العربي مداسي، مغربلو الرمال
3 – عمار قرفي، من المقاومة المسلحة إلى جبال الولاية الأولى مسار الفدائي الماجد
4 – محمد عجرود، الملف السري لاغتيال الشهيد مصطفى بن بولعيد
5 – جمعة بن زروال واخر، دور سكان مدينة باتنة في الثورة التحررية، مقال من كتاب جماعي، منشورات مخبر الأمن الإنساني جامعة باتنة1