يقول شارل روبير أجيرون: “عادة ما يكون خلف الثورات مجموعة صغيرة من الرجال الحازمين”.
هذا ما ينطبق على عبد الحفيظ بوصوف أو سي مبروك الإسم الثوري لمؤسس جهاز المخابرات الجزائرية، الذي ساهم في تكوين أول دفعة لسلاح الإشارة سنة 1956 خدمة للثورة.
طوله 1.78 وجه دائري وعينيين مخفيتين بنظارات سوداء ملونة وابتسامة صادقة، لكن تخفي وراءها دهاء فاق جيله وثقة بالنفس ، خبير بالخطط الحربية الإستراتيجية له موهبة في التنظيم والإدارة والقدرة على إيجاد حلول للوضعيات الأشد تعقيدا، دقيق الملاحظة وهب نفسه للمصلحة الوطنية.
قال عنه رفيق السلاح لخضر بن طوبال انه كان العمود الفقري للثورة.
وقال عبد الحميد مهري: “ليس للتاريخ أن يحفظ بأن بوصوف مهندس وزارة التسليح والإستعلامات العامة فحسب، لأنه كان رجلا سياسيا كبيرا ومسؤولا كبيرا في الثورة “.
ويؤكد تواضع بوصوف بالقول: “في الوقت الذي كان يرتب لتعيين الوزارة الجديدة للتسليح والإستعلامات العامة، صرح لي بأنه سيتجاوز مساعدة الذين يفوقهم معرفة ولن يطلب سوى خدمات أولئك الذين يفوقونه”.
رجل لطيف ويمزح!
يشهد عنه من عملوا تحت إمرته أنه كان رجلا لطيفا كله مزاح، قام بدور أساسي في إدارة جبهة التحرير الوطني وتطوير جيش التحرير، بفضل كفاءته ودهاءه الخارق. أنشأ مصلحة الإستعلامات وتم تكوين قرابة 1500 إطار في مدرسة بوصوف.
استطاع التغلب على طرق المصالح السرية الفرنسية للتوثيق الخارجي والجوسسة المضادة وشركائها، رجل الظل رحل ومعه حقائق وأسرار كثيرة، يصفه إبراهيم لحواسة، الإطار السابق في وزارة التسليح والإستعلامات العامة بالعلبة السوداء للثورة.
ويؤكد المجاهد المرحوم محمد لمقامي، في شهادته، أن المديرية الوطنية للإشارة كانت بمثابة البنت الغالية على قلب بوصوف، والشقيقة الكبرى لوزارة التسليح والعلاقات العامة MALG، فكانت هي الهيئة الأولى التي أطرت كوادر أصبحوا فيما بعد قادة لمختلف مصالح هذه الوزارة .
نفس الأمر يبرزه المجاهد محمد مقراني، في تصريح لـ”ذاكرة الشعب” بالقول إن أول نواة تشكلت لميلاد سلاح الإشارة كان في صائفة 1956 بمدينة وجدة المغربية.
الطفل العاشر..
ولد سي مبروك بتاريخ العاشر أوت 1926 بميلة، ينحدر من عائلة مزارعين ثرية، الطفل العاشر في العائلة وأول واحد يكتب له البقاء على قيد الحياة لأن والدته فقدت تسعة أطفال قبل ولادته، كان بالنسبة للعائلة فأل خير لأنه سيتبع بأربعة إخوة وأخوات.
والده كان إماما وقاضي جبهة التحرير الوطني في الولاية الثانية، مثلما أورده المؤلف الصحفي الشريف عبد الدايم في كتاب جمع شهادات عن شخصية عبد الحفيظ بوصوف.
ويضيف عبد الدايم أن أخوي بوضوف، رشيد وعبد العزيز، مناضلين مخلصين للقضية الوطنية، كان رشيد مسبلا كلفه بوصوف بنقل الأسلحة نحو المنطقة الثانية (الولاية الثانية لاحقا)، أوقفه الجيش الفرنسي وتلقى تنكيلا بالمروحية لأنه رفض الإعتراف، تم تعليقه من رجليه وجره من ميلة إلى شلغوم العيد والتلاغمة وألقي من علو ستة أمتار أمام أنظار سكان مدينته لتخويف الأهالي، وقد حمل آثار هذه الممارسة المتوحشة إلى غاية وفاته في أوت 2007.
أما شقيقه عبد العزيز فكان ينقل القمح من ميلة إلى جبال الميلية، ألقي عليه القبض وخضع للإستنطاق غير أن غياب الحجج المعرضة للشبهة جعل الجلادين يخلون سبيله ليسافر إلى فرنسا ويشتغل في مصنع بمدينة غرونوبل، وموازاة مع ذلك كان ينشط في خلايا فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، تابع نضاله إلى غاية إسترجاع السيادة الوطنية.
ويؤكد الكاتب إلتحاق بوصوف بالمدرسة القرآنية في سن السادسة. كان يذهب بإستمرار إلى الشيخ سي سعد بوصوف، أحد أعضاء العائلة ثم إلتحق بالمدرسة الفرنسية، وعندما كانت هذه الأخيرة تحاول تعليمه أن أجداده هم الغوليون، كان سي مبروك يتصفح كتب التاريخ التي تتناول المقاومة الجزائرية بحكم أن والده كان يملك مكتبة محترمة فيها كتب تاريخية ودينية.
ويكشف المؤلف أن بوصوف حين بلغ سن العاشرة شغف بملاحم الأمير عبد القادر والمقراني والشيخ بوعمامة وفاطمة نسومر ، وإذا سأله والده عن جدوى هذه الكتب يجيب دون تفكير: “أحب أن أعرف لماذا لم تنجح كل هذه الثورات “.
كان يعتز بعروبته.
وحسب شهادة صديق الطفولة محمد الميلي التي نقلها الكاتب، فإن سي مبروك تميز منذ صغره بتفوقه في الدراسة وبتواضعه ونزعته نحو الزعامة بالقول: “عرفت بوصوف في المدرسة الإبتدائية بميلة، كان يتجاوزني في ذلك الوقت بثلاثة صفوف. وعلى عكس التلاميذ الآخرين كان يتميز بنضاله الكبير، كان يستغل أوقات الإستراحة ليعلمنا الأغاني الوطنية، كانت له آنذاك هيئة الزعيم”.
دقيق الملاحظة
يشير عبد الدايم الى أن هذا الإندفاع الوطني الكبير سيسهم في ذهابه إلى حزب الشعب الجزائري قبل حصوله على أهلية المرحلة الأساسية، وقام في مدينته بتشكيل بعض خلايا المناضلين، كان يجتمع معهم في بيته في ميلة القديمة، الذي اتخذه لاحقا ملجأ لبعض الوجوه الثورية والسياسية منهم عمار بن عودة وزيغود يوسف.
أظهر بوصوف استياء غداة مجازر 8 ماي 1945، هناك من يقول إنه مزق رفقة سليمان بوعروج الأعلام الفرنسية التي كانت تزين مدينة ميلة بمناسبة انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية، في حين يشهد بعضهم أن بوصوف قام رفقة أصدقاء حيه بتخريب مركز درك ميلة بالحجارة.
اتجه بعد حصوله على الأهلية في ميلة إلى قسنطينة لمتابعة دروسه في ثانوية رضا حوحو (ثانوية أومال سابقا) أين تحصل على شهادة البكالوريا، ويؤكد المؤلف في شهادته نقلا عن شقيقة بوصوف أن هذا الأخير لم يشتغل أبدا لا في محل لتنظيف الملابس ولا كعامل تجاري ولا كمعلم، لكنه إنخرط في الكشافة الإسلامية التي كان يقوم معها بجولات في ميلة، فرجيوة وفي جهات أخرى مختلفة.
وفي سن الـ16 أصبح عضوا نشطا في المنظمة السرية، تربى في هذه المنظمة كلف بتوزيع المناشير في ميلة ليتم إلصاقها في كل زوايا المدينة.
انخرط في المقاومة السياسية مع ثوار كبار منهم محمد بوضياف، العربي بن مهيدي، رابح بيطاط ووجوه أخرى شهيرة في صفوف حزب الشعب الجزائري، نشأ في السرية وتعلم تدريجيا وفي صمت دراسة الرجال والأشياء ومصالح المشهد السياسي وسيلج عالم السرية والإستعلام إلى درجة أن لا أحد من قدمائه أو جدده شكك في عبقريته الثورية.
عين بوصوف رئيسا لدائرة سكيكدة إلى غاية أواخر 1952، وفي هذا الصدد يقول محمد حربي: “كانت الشرطة تمارس ضغوطا مستمرة على الموزعين لعرقلة بيع جريدتنا الجزائر الحرة التي حلت محل المغرب العربي، ألقي القبض في مدينة القل على عمار بوعكيز ومعه ألف ومائة نسخة من الجزائر الحرة”.
ويضيف:” أمر رئيس الدائرة آنذاك عبد الحفيظ بوصوف الذي حكم عليه غيابيا بسبب مشاركته في التنظيم شبه العسكري في حركة انتصار الحريات الديمقراطية برد فعل سريع وهكذا تم تنظيم مظاهرة”.
الجلابية المرقعة والقبعة المصنوعة من التبن..
ويقول أحد مناضلي حزب الشعب الجزائري الذين ساهموا في التحضير لمظاهرات الـ8 ماي 1945 بسكيكدة محمد بودخنة: “عرفنا بوصوف في عهد المنظمة الخاصة، كانت له شخصية قوية وكان رجلا مدهشا، حدث أن زارنا مرة بثياب شحاذ. أتذكر جيدا جلابيته المرقعة قبعته القديمة المصنوعة من التبن وهيئته المتراخية في مقهى ملك لشخص يدعى تبوش، كانت تلك كلمة سره”.
يضيف المجاهد: “كنا في كل مناسبة نغير مكان الاجتماع وكان بوصوف من هذه الناحية متناهي الدقة، كان مهتما كثيرا بالتفصيل يأتي بوجه مكشوف بحضور المسؤولين ، في حين أنه كان يغطيه بقناع عندما يكون مع عموم المناضلين كانت إحدى توجيهات المنظمة الخاصة حتى لا ينكشف أمر إطاراتها أمام المخبرين المحتملين الذين يتعاونون مع الشرطة الإستعمارية”.
ويكشف: “كان لبوصوف فن الإنمحاء الإختفاء لزمن معين قبل العودة في الوقت الذي لا نتوقعه كثيرا، كان يتميز بإنضباط صارم وبقدرة على إخفاء ما تعلق بحياته الخاصة ومشاعره الشخصية، كان بوصوف يزورنا من حين إلى حين برفقة مسؤولين مثل محمد بوضياف، محمد بلوزداد ولخضر بن طوبال”.
كانت الشرطة الفرنسية تبحث عن بوصوف بعد تفكيك المنظمة الخاصة فتم تحويله رفقة بن مهيدي وبن عبد المالك رمضان إلى وهران ، وبدأ بوصوف في دراسة الميدان وكان ينشط تحت إسم سي لحبيب ، وفي شهادة أوردها الكتاب للمجاهد بلمكي دريس من منطقة بني سنوس أحد رفاق بوصوف سنة 1953 أن سي مبروك كان يعرف دائما كيف يظهر في مستوى العمل او المهمة الملقاة على عاتقه يكون أمام الوضع الأشد تعقيدا ويخرج منها ويحلها، يستطيع السير بنفس الخطوة الحذرة في الأماكن الأكثر حراسة لأنه تعلم خلال سنوات السرية نظام التحكم في الذات .
مثل الحرباء..
ويضيف: “حمل في هذه الحياة السرية عدة أسماء كان يأخذ معه عند ذهابه إلى المغرب الأقصى رخصة سياقة باسم أحمد المراكشي وكانت عكس البطاقة الوطنية لا تحمل أية إشارة إلى الجنسية، يسافر أحيانا مستخدما إسم أرموند ، كان له مخزون لا حد له من البطاقات الوطنية، كان مثل الحرباء كلما غير المنطقة ارتدى جلابة محلية ليمر مرور الكرام”.
ويذكر رفقاءه حكمته القاعدية :”على المحارب أن يكون شرسا كنمر جائع متحركا كفراشة، ولا يتعب مثل ملور في الماء”. ويشير الكاتب أن بوصوف كان يتردد في وهران على مكتب الطبيب نقاش أين يجتمع بانتظام مع مسؤولي المنظمة الخاصة .
كان بوصوف من الأوائل الذين كانوا مقتنعين تماما بضرورة اللجوء إلى الثورة المسلحة ، وفي محاضرة لعبد الكريم حساني حول بوصوف بجريدة المجاهد بتاريخ جانفي 2008 يؤكد أن سي مبروك لم يخف البتة ثقته في مصير المعركة قائلا :”إننا متأكدون من طردهم نهائيا من أراضي الأجداد وعندما تتحرر البلاد سيعود السلم، الأمان والسعادة وسنقيم وقتها علاقات ودية مع كل شعوب المعمورة”.
وفي شهادة لشقيقة بوصوف في لقاء لها مع المؤلف عبد الدايم في ديسمبر 2008 تقول:” قبل أيام قليلة من إندلاع الثورة، قام بوصوف بزيارة لأمه الموجودة في ميلة سألته عن تاريخ عودته فأجابها بأنه سيأتي الوقت الذي لن يزور فيه أحدا مرة ثانية”، وفعلا لقد كان ذلك لقاءه الأخير وهو يحمل مسدسا قديما ولم يكن إلا بعد الإستقلال.
ويؤكد الكاتب استنادا لمصادر موثوقة أن سي مبروك والعربي بن مهيدي وحدهما من كانا على علم بتاريخ وساعة إنطلاق الثورة، وعين بوصوف عشية أول نوفمبر 1954 بن محمد العيد للذهاب من أجل ملاقاة العربي بن مهيدي الذي سيصل بالقطار .
كانت كلمة السر التي أعطاها بوصوف لبن محمد هي فسخ وشاحه ثم تسويته، ويشير إلى أن بوصوف هو من إقترح إسم هواري بومدين كإسم حربي وكلف هذا الأخير بتدريب الجنود كمهمة أولى وأشرف على عملية نقل الأسلحة على متن سفينة دينا .
يقول عضو المالغ المرحوم محمد لمقامي: ” جاء سي مبروك والأشقر (بومدين) الذي وجدته معه عند بوعمامة ليس لزيارتي بل للإقامة في بيتي. تركت لهما غرفتي الوحيدة واحتفظت بالمطبخ بقيا أزيد من أسبوع وكانا لا يخرجان ليلا، وبالتناوب سوى مرتين أو ثلاث مرات للذهاب لا أدري إلى أين قبل أن يغادرا نهائيا ذات ليلة كما جاءا”.
ويضيف: “لم أدخل إلى غرفتي طوال إقامتهما أغلقها سي مبروك بالمفتاح. كانا يعيشان في الغالب بمعلبات السردين والزيتون والسمن والجبن الذي كنت أذهب للبحث عنه في محل الحدود… لا يجب أن يبقى أي أثر لإقامتهما هنا، كنت أتخلص يوميا بأمر من سي مبروك برمي مواد التغليف والعلب بعيدا “.
ويشير: “لم يحدث أن سمعت البتة ما كان يجري في الغرفة ما عدا في الصباح الباكر من أحد الأيام ، كنت قد حضرت القهوة ووضعتها أمام باب الغرفة كالعادة، وإذ أدخلها سي مبروك نسي إغلاق الباب بالمفتاح كما كان يفعل بانتظام . لم أكن أسمع من المطبخ سوى صوت سي مبروك الذي كان يبدو غاضبا جدا من مرافقه نعته بكل الصفات واستنتجت أن الأشقر ليس جنديا مرتزقا على الإطلاق، كان ذلك في نوفمبر 1955”.
ويؤكد عبد الدايم أن فكرة إنشاء مراكز على طول حدود التراب المغربي كانت إحدى أولوياته، ويصف المجاهد عبد الكريم زاوي سي مبروك بالرجل الفريد من نوعه يتميز بدقة استثنائية ، صارما فيما يخص إحترام الوقت والموعد. كان يمتلك المعلومات الجديدة كانت ألاف الأخبار تذهب إلى طاولة عمله في شكل برقيات وتفحص وتدرس بدقة وتقارن ، كان رجلا منهجيا منظما ولا ينتقل إلى الفعل إلا بعد دراسة الوضع.
المبادرة الشخصية المبنية على التروي
وقد أنشأ بالنظر إلى الرسائل التي تحصل عليها أمانة، حيث صنفت الوثائق تأسيسا على المناطق الجغرافية والتسلسل ما ساعده في التحكم في كل الأوضاع وفي إقناع مختلف المسؤولين أثناء الإجتماعات.
كانت له معلومات دقيقة يقول المجاهد المرحوم حساني. ومن ميزات بوصوف أنه كان يشجع الشباب على المبادرة الشخصية المبنية على التروي .
عمل على إقتناء أحدث أجهزة الراديو وتزويد جميع الولايات بالمعدات اللازمة للإتصال ، فبدء من سنة 1958 تخرجت 13 دفعة في إستخدام واستغلال الراديو في الصيانة و5 دفعات في التشغيل.
وبنهاية 1957 جهزت جميع المناطق الثمانية التابعة للولاية الخامسة بمحطات للإتصال والراديو مع تقنيين، إضافة إلى محطات أخرى أضيفت لاحقا، وبمجرد إنشاء محطات الإتصال على الحدود الجزائرية التونسية أوكلت مهمة استغلالها لكوادر تم تكوينهم بالولاية الخامسة.
علاوة على ذلك أنشأ بوصوف شبكة تربط الولايات الثورية بمختلف الهيئات والقيادات مثل الحكومة المؤقتة وقيادة أركان جيش التحرير الوطني، ومحطات أخرى تتكفل بالمهمات الدبلوماسية في كل من الرباط، تونس، طرابلس، القاهرة، دمشق، بغداد، بكين، كوناكري، باماكو وأكرا.
وأولى بوصوف أهمية بمسألة إلتقاط المعلومات من عمليات تخابر العدو وتطوير شبكات للتنصت فقام بتعيين كل من سي موسى وعمر ثليجي وضابط آخر من بين المتربصين يدعى أبو الفتح الذي كان يعمل مع بوضياف في تطوان لتشكيل قيادة الإتصال في الولاية الخامسة سنة 1956.
وكلف سي موسى بمهمة إنشاء مركز التنصت الراديو إلكتروني وهو مشروع سري حظي بمتابعة دقيقة من طرف بوصوف. وسلم اول مركز تصنت في الفاتح جانفي 1957 وتم تحويل الجنود المتخصصين والمكونين في الميدان للعمل به.
وخصصت آلات راقنة وتجهيزات حديثة تحصل عليها مسعود زقار المدعو رشيد كازا من القواعد العسكرية الأمريكية بالمغرب. وكانت المحاضر والتقارير المنجزة بالمركز تنقل كل مساء إلى القيادة عن طريق عون الإتصال لتعالج وتوزع حسب الإختصاصات، والقيام بإحصاء جميع الأنشطة التي يقوم بها العدو وحلفاؤه وإعداد حصيلة خاصة بالحرب Bulletin de guerre ، وذلك لبثها يوميا على الراديو والصحافة الجزائرية في الوقت الذي تعمل فيه أجهزة التنصت على العدو في سرية تامة على الشريط الحدودي الشرقي والغربي.
المراكز الخاصة
وبمساعدة هذه المراكز الخاصة تمكنت شبكات بوصوف المنتشرة على الحدود من الحصول على جميع المعلومات المتعلقة بتحركات العدو وعدد الوحدات المتخصصة في العمليات الحربية، وكذا رصد بعض تعليقات التقنيين الفرنسيين والحالة المعنوية في الجيش الفرنسي، وأيضا الإطلاع على الأوامر الموجهة إلى سلاح الطيران من أجل التدخل.
كان سي مبروك يحث الضباط على ضرورة التسلح بالإرادة والشجاعة لتجاوز العوائق وعارف بمسار الكفاح والمهمات التي أوكلت لكل فرد. وكان الفضل لبوصوف في إنشاء إذاعة الجزائر الحرة والمكافحة ليستغل هذا السلاح لتشتيت نظام العدو.
في جانفي 1957 قام بوصوف بتكوين 17 متربصا لغرض تشكيل لجنة للمراقبة والإعلام وهي دفعة ضمت 9 رجال و8 نساء وكلفت اللجنة بمهام سياسية، بهدف جس نبض الشعب سيكولوجيا وسياسيا ومعرفة مدى قدرته على التحمل، وإلتحق 16 عنصرا من هذه اللجنة إلى تراب الولاية الخامسة التاريخية من أجل مراقبة المناطق التابعة لها.
وتؤكد إحدى المتربصات في لجنة المراقبة يمينة عبد الصمد أن بوصوف كان مرشدا ومعلما كبيرا، إذ إستطاع أن يغرس فيهم الجدية والتضحية من أجل تحقيق الأهداف الثورية مهما كانت المخاطر والصعوبات التي تعترض طريقهم.
وتقول:”إستطاع خلال شهرين ونصف من التربص السري وبفضل تحكمه في فنون البيداغوجية أن ينقل لنا أهم القواعد والمبادئ المتمثلة في النظام في العمل، السرية، الإنضباط، المراقبة والحرص “.
وتضيف :” على المستوى العسكري فقد تدربنا على تقنية حرب العصابات من خلال كيفية وضع الكمائن والهجومات الكاسحة والحصار وخطط الإنسحاب التكتيكي وتلقينا طرق الإستخدام الأمثل لكل الأسلحة “.
وتقول أيضا :” كنا نتابع دروسا مكثفة في السياسة والإقتصاد، وعند نهاية التربص يتم تحويلنا إلى وجهات مختلفة قبل توظيفنا في مصلحة الإستعلامات والعلاقات، ما فرض علينا خوض غمار السرية التامة “.
وتوضح :” مهمتنا تنحصر في إستغلال محاضر التنصت والقيام بالنشاطات الخاصة (الدعاية) أو ما يسمى بالحرب السيكولوجية والتحضير لحصيلة إخبارية وتوزيعها على كافة الوحدات المقاتلة حتى نصد محاولات العدو في التأثير النفسي على الجنود “.
تقدير دور المرأة في الثورة
وتكشف خديجة بريكسي واحدة من طلبة دفعة المراقبين أنها لأول مرة اكتشفت عن كثب أن بوصوف رجل يعي ويقدر دور المرأة وحضورها في الثورة، والدليل أنه إعتمد عليهن في مهام حساسة تتطلب السرية التامة والمتمثلة في تكوين مراقبين في كل منطقة.
في المقابل أسس بوصوف أول مدرسة لتكوين الإطارات في جويلية 1957 بوجدة، لتكون لبنة أساسية للتسيير السياسي والإداري للجزائر المستقلة، وفيما يخص مفاوضات إيفيان أمر سي مبروك المصالح الخاصة بوزارته بمتابعة النوايا الفرنسية من المفاوضات التي إلتزمت بها رسميا مع الحكومة المؤقتة، مطالبا بإعداد مسودة تتناول جميع المواضيع المحتمل التطرق إليها خلال المفاوضات مع تحليلها بدقة من أجل تدعيم البعثة الجزائرية بكل المعطيات لتمثيل القضية.
وفي ديسمبر 1960 كلف بوصوف قاصدي مرباح لتحضير ملف عسكري كامل ومرافقة الوفد المفاوض في روسيس، واشتمل الملف مخططات خاصة بالقاعدة البحرية في المرسى الكبير تضمنت رسم الحدود التي يمنع على الفرنسيين الإقتراب منها، تحصل عليها من خلال ربورتاجات صحفية معدة من قبل فرنسيين يساريين داعمين للقضية الجزائرية، خريطة تبين مواقع الثروات الباطنية عبر التراب الوطني.
لقد أولى بوصوف أهمية بالغة لإنشاء مكاتب خاصة بالأرشيف لضبط الأمور، فكل المراسلات والإتصالات مهمة كانت أو عادية كانت تحفظ وتسجل حسب تنظيم متعارف عليه تحسبا لإستعمالها لاحقا.
إستطاع بوصوف تجنيد العديد من الشخصيات الأجنبية سواء على الصعيد الإيديولوجي أو من خلال اللعب على وتر الإنتماء للوطن الجزائري أو الأمة العربية الإسلامية، وهو ما فعله بالضبط مع بعض النواب المسلمين أو ما سمي بالقوة الثالثة بجذبه لهم ليكونوا دعما وسندا للثورة.
إذ تم تنظيمهم في خلايا خاصة داخل الفدرالية الفرنسية في باريس منهم حقيقي من وهران، بن شيكو من قسنطينة وخيرات من مستغانم الذين سعوا في كل مرة لإفادة الثورة بالمعلومات والدعم اللوجستيكي اللازم وخاطروا في كثير من الأحيان بحياتهم مثلما قام به نائب مدينة بون الذي كان يأتي إلى باريس على متن سيارته المعبأة بالأسلحة.
وحسب شهادة عمر بن عودة عند انعقاد اجتماع الـ22 تناول القادة مسألة التسليح فأجاب بوصوف بأن الثورة لابد أن تصنع سلاحها بنفسها، وهو الحلم الذي لطالما راود بوصوف الذي كان يجيد صنع المولوطوف منذ كان شابا حسب ما رواه الكثير من مقربيه، وعرف أيضا بتصنيعه للقنابل اليدوية عندما كان في المنطقة السرية، وتؤكد الشهادات انه كان وراء صنع تلك القنبلة التي فجرت أول دبابة فرنسية في منطقة بوسعيد.
أمر بوصوف بإنشاء ورشة خاصة بتركيب وتصنيع السلاح والقنابل اليدوية من الصنف الإنجليزي والأمريكي وتصنيع رشاشات PM40 ألمانية الأصل. وانشأت ورشات أخرى للتصنيع على التراب المغربي.
تمكن جيش التحرير الوطني من إنتاج أكثر من 2000 مدفع و10000رشاش و30 ألف قنبلة يدوية هجومية صنع إنجليزي، إضافة إلى الطربيدات والصواريخ الصغيرة الحجم والأسلحة البيضاء.
إطارات نكران الذات
واصل بوصوف العمل في تجارة السلاح من أجل الجزائر مثل مسعود زقار الذي كان الساعد الخفي للرئيس بومدين، واستخدمت اتصالاتهما في هذا الشأن وساعدا الكثير من الدول على التحرر، وعملا على تشكيل جماعة ضغط من الجزائريين في الولايات المتحدة الأمريكية.
رحل بوصوف بتاريخ 31 ديسمبر 1980 في شقته الصغيرة بباريس بسبب إصابته بسكتة قلبية مفاجئة أثناء حديث ودي له مع المعارض المغربي سي محمد فقيه البصري الذي كان يعايده بمناسبة العام الجديد. تاركا إطارات كفؤة تربوا على السرية والكتمان ونكران الذات مثلما يشير له المؤلف، ويبقى بوصوف أب المخابرات الجزائرية قدم الكثير لوطنه دون أن يأخذ شيئا.