المحتشدات جريمة من جرائم فرنسا الإستعمارية، فاق عددها 2500 محتشد، تراكم فيها أكثر من 3 ملايين جزائري، لمجرد اشتباه في إنتماء أو تعاطف مع الثورة.
أحاطت الإدارة الإستعمارية المحتشدات بالأسلاك الشائكة ووضعت مراكز عسكرية مسلحة بالمدافع والمصفحات وطائرات الاستكشاف.
أهم المناطق التي أنشأت فيها المحتشدات منطقة الأوراس، الشمال القسنطيني، منطقة القبائل، الونشريس، تلمسان وغيرها من المناطق.
كانت السلطات الإستعمارية تنشر في أوساط الجزائريين مناشير تدعوهم فيها إلى الإلتحاق بالمحتشدات.
يُعرّف عبد الحميد مهري المحتشد بأنه “مركز عسكري فرنسي ينشئ في مواقع استراتيجية يختارها العدو، وذلك بجلب الجزائريين بالقوة وزجهم فيها، لتشكيل حزام واق للمراكز الفرنسية، مقابل تدمير أراضيهم، خاصة مساكن الإيواء ومصادر العيش المتمثلة في المزارع”.
تعود جذور المحتشدات في الجزائر إلى 1844، في بداية العهد الإستعماري الفرنسيحين، حيث شرعت الإدارة الإستعمارية في إحداث المكاتب العربية، بهدف تجميع السكان في اماكن محددة.
بدأ ظهور المحتشدات بشكل واسع منذ بداية عهد ديغول في منتصف1958، بتهجير الجزائريين من القرى والمداشر في المناطق الريفية وجمعهم في محتشدات تحرسها قوات عسكرية لمراقبتهم ومنعهم من الإتصال مع جنود جيش التحرير.
وبالتالي فصل جيش التحرير عن قاعدته الشعبية والدعم اللوجستي بهدف إضعاف الثورة.
3 ملايين جزائري في المحتشدات
يذكر المؤرخ يحيي بوعزيز في كتابه”الثورة في الولاية الثالثة 1954- 1962″، أن عدد المحتشدات قدر بـ 1500 محتشد في 1958، بها 750 ألف شخص، ارتفع عددهم إلى واحد مليون في 1959، ومليون ونصف بداية 1960. وتضاعف عددهم فأصبح 3 ملايين نهاية الثورة.
وحسب بعض المصادر الفرنسية، عدد الأشخاص الذين وضعوا في المحتشدات قدر بـ460 ألف في ماي 1958، وارتفع عددهم إلى 1513000شخص وظل العدد في الإرتفاع.
وذكر شارل روبير أجرون أن عدد التجمعات السكانية تجاوز 1342 في 1 أكتوبر 1959، وارتفع إلى 1679 مركز افي جويلية 1960 بناء على تقرير السلطات المدنية.
وتذكر السلطات العسكرية 2025 مركزا، يحتوي 1513172 شخصا. و في 1 أكتوبر 1960 قدر عدد المراكز بـ2104 مركزا يحتوي على 1660514 شخصا.
عرفت هذه المحتشدات أيضا بإسم “السلك” نظرا للأسلاك الشائكة التي كانت تحيط بها، وهي شبيهة بمراكز التصفية وتختلف عنها في اتساع رقعتها وتعدد المسؤولين بها، وهيمنة رجال المصالح الإدارية الخاصة S. A. S عليها.
تمارس فيها أنواع الاستنطاق والتعذيب كباقي المراكز ويتعرض نزلاؤها لمصير مجهول أيضا.
جرى ترسيم هذه المحتشدات في 1956 بعد صدور قانون حالة الطوارئ في أفريل 1955.
قدر عدد الجزائريين في المحتشدات مليون و157 ألف جزائري، أي ربع الشعب الجزائري.
اعترف الوزير المفوض بول ديلوفريي، وهو ناطق رسمي بإسم الحكومة الفرنسية في الجزائر، في قوله: ” إن المصالح الإدارية المتخصصة جمعت عدد من الجزائريين وصل مليون ومائتين وخمسون ألف شخص”.
وأقيمت العديد من المحتشدات في المنطقة الحدودية مع تونس، مثل محتشد سالين قرب عنابة ومحتشد الماء الأبيض، ومحتشد الشريعة بتبسة.
كانت لانشاء المحتشدات انعكاسات خطيرة على المرحلين على المستوىين الاقتصادي والاجتماعي وحتى النفسي، ولم يجد المرحلون ظروفا أحسن لقلة فرص العمل وانعدام المرافق والخدمات، الصحية ونقص الغذاء.
وذكرت يومية Le Monde في أحد تقاريرها حول الموضوع، أن الدعم الذي كانت تقدمه الهيئات الوصية لمراكز التجميع لا يتجاوز 120 غرام من الفرينة للفرد الراشد، وفي بعض الأحيان ينقطع تماما، ما أدى إلى إرتفاع نسبة الوفيات، خاصة الأطفال والمسنون.
وتؤكد الإحصائيات أن عدد الأطفال المتوفين يوميا بلغ 500 طفلا، بمعدل وفاة طفل كل يومين في كل محتشد، يقل عدد قاطنيه عن 1000 فرد، وترتفع النسبة كلما إرتفع عدد الأشخاص في المحتشد.
إضافة إلى الآثار النفسية الخطيرة، الخصائص العمرانية للمحتشدات تتطابق إلى حد كبير مع تلك شكل ومحتوى السجون. هناك السياج الشائك وصوامع الحراسة وكل هذه الإجراءات غيّبت الحرية.
وينقل الباحث ميشال كورناتو، في كتابه “محتشدات الثورة الجزائرية”، شهادة مسن جزائري بالقول: “جرجروا كل الرجال إلى السجون وها هم يرغموننا نحن النسوة والأطفال والعجزة على بناء سجوننا بأيدينا، وليتهم ما منعوا عنا حساء المساجين”.
وحسب دراسة الأستاذة نادية نعلمان من جامعة خميس مليانة بعنوان “المعتقلات والمحتشدات إبان الثورة التحريرية ولاية المدية أنموذجا”، في 1958 بلغ عدد الذين زُج بهم في المحتشدات بمقاطعة المدية 80 ألف نسمة وعددهم بالولاية الرابعة آنذاك 504 ألف نسمة، ما يمثل 16 بالمائة.
وذكرت الباحثة بعض المحتشدات التي كانت موجودة بولاية المدية مثل محتشد الكاف لخضر بدائرة عين بوسيف بالمنطقة الخامسة الناحية الأولى الذي أنشئ في 1956، به ثلاثة أبراج للحراسة وحوالي 400 جندي فرنسي، محتشد سيدي قويدر ببلدية بئر بن عابد بالمنطقة الخامسة الناحية الثانية أنشئ في 1959، به ثلاثة أبراج للحراسة.
وتوضح الدراسة أن هذه المحتشدات عبارة عن سجون جماعية يعاني السجين بداخلها كل أنواع البؤس والحرمان، كانت تفتقد لأدنى شروط النظافة والعناية الصحية، إضافة إلى تجميع مياه الصرف القذرة، وهكذا تدهورت حالة الجزائريين الصحية وتفشت الأمراض كالحمى والتيفويد والكوليرا.
وحاولت فرنسا إيهام الرأي العام الدولي أن الشعب الجزائري سئم من الثورة والثوار، ما دفع بهم إلى الهروب من الجبال والأرياف، التي يقطنونها إلى هذه المناطق التي يقيم فيها الجيش الفرنسي حتى يوفر لهم الأمن والحماية.
ووصف الأسقف جاك بومون الأوضاع المزرية لأطفال المحتشدات في كراسة دونها في أكتوبر 1959 بقوله: “رأيت أطفالا تميز عظامهم تحت البشرة بوضوح، إنهم أطفال أنهكتهم الحمى والبرد فلم يكتمل نموهم، ورافقهم الشحوب والهز ل وأكلتهم الأمراض المختلفة دون أن يجدوا فرصا لإيقاف الحمى”.
وأضاف: “لقد رأيتهم يرتجفون من الحمى وهم راقدون على الأرض بدون غطاء، لقد زرت الكثير من المراكز التي لا يوجد بها غطاء واحد في بعض الأحيان، فهو غطاءواحد لثلاثة عشر شخصا يتغطون به جميعا في خيمة واحدة “.
كان الهدف من إنشاء هذه المحتشدات هو عزل جيش التحرير الوطني عن مصدره الأساسي وهو الشعب، والحيلولة دون تأثير الجزائريين بالعمل الدعائي والوعي الوطني والسياسي الذي تقوم به أجهزة جيش وجبهة التحرير الوطني،و منع إلتحاق الشعب بالثورة.
وتذكر الدكتورة عقيلة ضيف الله في كتابها”التنظيم السياسي والإداري للثورة1954-1962” المحتشدات بالولاية الثانية الشمال القسنطيني، مؤكدة أن إنشاء هذه المحتشدات في هذه الولاية بشكل خاص نظرا لتمركز جيش وجبهة التحرير الوطنيين هناك بقوة، فقد اجتمعت القيادة الفرنسية في مدينة قسنطينة يوم 3 ماي 1957، وقررت أن تكون دوائر القل، جيجل، والميلية وقسم كبير من دائرة سكيكدة مناطق محرمة.
في بداية جوان 1957، شرع الجيش الفرنسي في محاصرة القرى والأرياف بالدوائر المذكورة وإجبار سكانها على مغادرتها إلى المخيمات التي أنشأت خصيصا لهم، ووزعت في هذا الشأن مناشير تنذر سكان القرى والمشاتي بضرورة مغادرة ديارهم .
وأعطيت لهم ثمانية أيام لتنفيذ ذلك. لكن التعليمات التي تم الإعداد لها بدقة باءت بالفشل الذريع لان معظم السكان فروا إلى الجبال، حيث قام جيش التحرير ببناء ملاجئ لهم ولم يبق سوى الشيوخ والنساء والأطفال الذين رفض بعضهم مغادرة قراهم تطبيقا لتعليمات الجبهة، بينما سيق البعض الآخر إلى المحتشدات بالقوة.
وتشير الباحثة إلى زيادة إلتحام الجزائريين بالمحتشدات، بالثورة، عكس ما كان يتوقعه الجيش الفرنسي، فقد كثف جيش التحرير من عملياته العسكرية في القرى، التي أُعلنت مناطق محرمة عن طريق نصب الكمائن لعناصر الجيش الفرنسي.
ويقول العقيد علي كافي، قائد الولاية الثانية، آنذاك: “لقد أراد العدو أن يفصلنا عن السكان فكانت النتيجة أن أصبح من جراء ذلك في خوف دائم من الهجومات المفاجئة والكمائن المباغتة”.
وتوضح الدكتورة ضيف الله أنه عندما فشلت السلطات الفرنسية في تحقيق مخططها لجأت إلى إرغام سكان المناطق المحرمة على مغادرتها، وعندما رفضوا تلبية نداء الجيش الفرنسي، شنت عليهم حرب إبادة بواسطة المدفعية الثقيلة والطيران. لكنهم تمكنوا من الفرار إلى الجبال التي اتخذوا منها ملاجئ لهم.
وبذلك تراجعت قوات الجيش الفرنسي عن برنامجها وقررت غلق المحتشدات وإطلاق سراح الجزائريين المجوّعين والمرضى والمنهكين، جراء سنوات من الإحتشاد في مراكز، لا إنسانية فيها..