أدت السينما الثورية دورا بارزا في التعريف بالقضية الجزائرية ونقل معاناة الجزائريين من ويلات الإستعمار للعالم.
كانت عدسة الكاميرا سلاح الثورة حملها رجال جازفوا بحياتهم وسط نيران الرصاص والطائرات الحربية.
وظف قادة الثورة الصورة المسرح والسينما سلاحا في المعركة السياسية لنقل معاناة وكفاح الجزائريين من أجل نيل حريته إلى الرأي العام الدولي، وحفظ تضحيات المجاهدين والشهداء لجيل المستقبل حتى لا تصاب بالنسيان.
وأكدت وثيقة الصومام على إعطاء أهمية كبيرة لقطاع الإعلام والدعاية في الداخل والخارج.
توثيق كفاح الجزائريين
ولدت المدرسة السينمائية في معاقل جبال الولاية الأولى التاريخية بقيادة سي محمود قتر وبعض الفرنسيين المساندين للثورة، ألمان ويوغسلاف منهم جمال شندرلي، رونييه فوتييه، ستيفان لابودفيش من يوغسلافيا، لتربية الأجيال على فنون الصورة والصوت، وذلك رغم الظروف الصعبة وقلة الخبرة وغياب وسائل العمل ونقص الأموال.
تكونت مصالح سينما عديدة سواء التابعة للحكومة المؤقتة أو لجيش التحرير الوطني.
ويبرز الباحث في التاريخ عمار قليل أن السينما الثورية ولدت في الجزائر من رحم الثورة بالقول: “ولدت من رحم المعاناة، ومن لهيب المعارك وشلالات الدماء المتدفقة من أجل معركة المصير”.
أنتج ما بين 1957-1962 العديد من الأفلام الثورية أهمها “جزائرنا” أول فيلم وثائقي طويل يشرح أسباب نضال الشعب الجزائري لا يتجاوز 25 دقيقة، أخرجه رونييه فوتييه في 1955 أخرجه الدكتور شولي وجمال شندرلي ومحمد لخضر حمينة، وإنتاج مصلحة السينما التابعة للحكومة المؤقتة.
وأوضح الباحث نبيل زاوي، في دراسة بعنوان” السينما الثورية الجزائرية ودورها في التأريخ لأحداث الثورة التحريرية الجزائرية 1958-1962″، أن دخول السينما للجزائر كان في 1898.
وركزت فيها السينما الكولونيالية في إنتاجها على تزيين صورة المحتل، وتصويره جالبا للحضارة والتمدن من جهة والحط من قيمة الجزائري وتصويره بأبشع الصور من جهة أخرى، وقدمت صورة بيضاء للوجود الإستعماري في الجزائر. وأكد أن السينما ظهرت كإستجابة لحاجة الثورة لوسائل إعلامية، بغية مواجهة الدعاية الإستعمارية
يذكر أحمد بجاوي أن الهدف المنشود من إستراتيجية العمل الإعلامي الذي تبنته قيادة جبهة التحرير الوطني كان بدافع جمع الصور الفوتوغرافية والمشاهد المصورة.
بهدف تلبية الطلب المتزايد على المجلات المصورة، وشبكات التلفزيون أنجزت هذه الأفلام وغيرها من التحقيقات حول حرب الجزائر من أمريكيين، ووزعت على كبريات القنوات التلفزيونية في الولايات المتحدة وفي أمريكا اللاتينية.
عميد السينما الجزائرية
جمال الدين شندرلي، عميد السينما الجزائرية، هو أول جزائري يحمل كاميرا على كتفه (آلة كاميرا قديمة 16 ملم) في جبال الجهة الشرقية من الجزائر. صور معارك جيش التحرير، ونقل يوميات المجاهدين للعالم.
التقط صورا لمواطنين ومجاهدين من القاعدة الشرقية، وهم ينزعون اللباس المدني ويرتدون بذلة المجاهدين.
كلفته قيادة الثورة عن طريق صالح الوانشي بهذه المهمة، فقدم لجيش التحرير النواة الأولى لخدمة التصوير الفوتوغرافي ثم السينمائي في تونس.
غطى من 1955 إلى أوت 1956 عددا من الأحداث المتصلة بمعركة التحرير الوطني.
التحق شندرلي بالثورة في الولاية الثانية في ديسمبر 1956، وساهم في 1958 في إنشاء مصلحة السينما التابعة لجيش التحرير الوطني بمساعدة بيار كليمنت، كلودين شولي، ومحمد لخضر حمينة، والعديد من السينمائيين.
أنتج العديد من الأفلام، وأهم عمل حضره فيلم “جزائرنا” الذي أعده بمناسبة مناقشة القضية الجزائرية في الأمم المتحدة.
أول مدرسة للتكوين بالولاية الأولى
فتحت أول مدرسة للتكوين في السينما في 1957 بالولاية الأولى، بإشراف رونييه فوتييه، وكانت تقوم بمهمة تعليم وإعداد السينمائيين، وكان الطلبة آنذاك جنود تلقنوا المبادئ الأولية في السينما وصاروا عبارة عن تقنيين وعملوا بدورهم على إنتاج عروض وثائقية عديدة، نقلوا من خلالها صورة الكفاح في الجبال.
لم تصمد المدرسة أكثر من 4 أشهر، واستشهد أغلب طلبتها أثناء المعارك، لكنها خرّجت مجموعة من الأفلام الوثائقية، وزعت في العديد من الدول الاشتراكية كيوغسلافيا وبرلين الشرقية للتعريف بالقضية الوطنية.
أنشأت بعدها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية مصلحة، خاصة بالسينما تابعة لها في 1959، ومصلحة أخرى تابعة لجيش التحرير الوطني في 1960، التي قامت بإنجاز أولى الأفلام الجزائرية بالصورة والصوت عبرت من خلالها على حقيقة الكفاح المسلح في الجزائر، وحفظ الإنتاج الذي أنجزته مصلحة السينما في أماكن خارج البلاد وجمعت بعدها في يوغسلافيا.
أرسلت قيادة جبهة التحرير الوطني بعدها، العديد من الشباب الجزائريين إلى العديد من الدول الاشتراكية الصديقة يوغسلافيا، ألمانيا الشرقية، تشيكوسلوفاكيا ليتكونوا في السينما، ومهدوا لتأسيس سينما جزائرية تكون في حجم تطلعات مرحلة ما بعد الاستعمار، منهم جمال الدين شندرلي، لخضر حمينة، أحمد راشدي، علي يحيى.
ويوضح الباحث زاوي أن السينما الجزائرية الوليدة بقيت وثائقية دعائية بالدرجة الأولى، ولم تتحول إلى روائية إلا غداة استرجاع السيادة الوطنية مع أفلام “الليل يخاف الشمس” للمخرج مصطفى بديع في1965، وفيلم معركة الجزائر للمخرج الإيطالي جوليو بونتيكورفو.
رونيه فوتييه واحد من الذين وضعوا الأساس لميلاد السينما الجزائرية، ولد في 15 جانفي 1928 انضم إلى المقاومة الفرنسية للنازيين وهو في سن الـ15 سنة، أكمل دراسته الثانوية ودخل معهد الدراسات العليا للسنيماتوغرافيا وتخرج منها كمتفوق الدفعة في 1948 شعبة الإخراج.
أنتج فيلم بعنوان “تاريخ أمة الجزائر”، وهو طالب في معهد السينماتوغرافيا أبرز من خلاله جرائم السياسة الاستعمارية وهو الفيلم الذي سيربطه بالجزائر حتى وفاته.
أنتج أول أفلام “إفريقيا الخمسينيات” بطلب من رابطة التعليم الفرنسية، وهو أول فيلم ضد سياسة فرنسا في المستعمرات.
أدخل فوتيي السجن بسبب هذا الفيلم، الذي منع من العرض، وبعد خروجه من السجن في 8 أكتوبر 1958 عاد إلى الجزائر عازما على إنجاز أفلام لفائدة الجزائر.
فيلم الجزائر الملتهبة أنتج سنة 1958 يتحدث عن واقع الثورة التحريرية، فيلم قصير في 23 دقيقة باللغة الفرنسية أخرجه فوتييه، أنتجه بالتعاون مع شركة ألمانية وزعت آلاف النسخ منه وعرض في العديد من دول العالم.
عين بعد الإستقلال عُين كأول مسؤول عن الجهاز السمعي البصري بين 1962-1965، ومنح الجائزة الكبرى للجمعية المدنية للمؤلفين في قطاع السمعي البصري تكريما له على أعماله.
محمد لخضر حامينة، المولود في 26 فيفري 1930 بالمسيلة، من الطلبة الجزائريين الذين أرسلوا إلى الخارج للدراسة تحديدا في فرنسا، التحق بجبهة التحرير الوطني بعد النداء الذي وجهته الحكومة المؤقتة لكل المثقفين والفنانين والمخرجين السينمائيين في1958 .
ساهم في إرساء معالم السينما الثورية الجزائرية قبل استرجاع السيادة الوطنية وبعده، وهو صاحب “وقائع سنين الجمر” في 1974 الفيلم المتوج بجائزة “السعفة الذهبية” في مهرجان كان العالمي.
من أفلامه “ياسمينة” أنتج في 1961 ومن إنتاج مصلحة السينما التابعة للحكومة المؤقتة ويعتبر أول فيلم خيالي جزائري.
فيلم “صوت الشعب” أنتج في 1961 أخرجه رفقة جمال شندرلي وإنتاج مصلحة السينما التابعة للحكومة المؤقتة، يندرج في تأريخ المعركة الوطنية ضد الإستعمار الفرنسي، يذكر ببداية الكفاح من أجل الاستقلال قبل اندلاع الثورة التحريرية في الفاتح من نوفمبر.
مصورو حرب التحرير
يعتبر سمار قدور من أوائل مصوري حرب التحرير، كان يقيم في تونس أين تعلم على يد فنانين ايطاليين تقنيات التعامل مع الكاميرا.
افتتح استديو للصور في تونس وآخر بوجدة بالمغرب في 1957، قام بتصوير عمليات التدريب لجيش التحرير الوطني في القواعد الخلفية الغربية للثورة (من وجدة إلى الحدود الجزائرية) بطلب من عبد الحفيظ بوصوف.
إلتحق بالولاية الخامسة في جوان 1960 سلم الأرشيف والأفلام، وكل الصور إلى مسؤولي هيئة الأركان العامة بقيادة هواري بومدين، توفي في 2008 في صمت، دون العثور على أرشيفه الخاص.
لابودفيتش.. حياة في خدمة الثورة
ستيفان لابودفيتش من المصورين اليوغسلاف الذين كرسوا حياتهم لخدمة الثورة الجزائرية، من خلال تغطيته لندوة بريوني ببوغسلافيا في جويلية 1956، والتي نظمت من طرف جوزيف بروز تيتو وحضرها وفد عن جبهة التحرير الوطني.
صوّر في الفترة من 1959 إلى 1962 مشاهد لجيش التحرير الوطني في فيلم “سينمائيو الحرية”، وقاد بعدها فريق من المكونين لتأطير الشباب المتربص، تم انتقائهم من طرف المحافظة السياسية لجيش التحرير الوطني، وكان الهدف توفير تقنيين لتولي التصوير في الجبال.
هناك أفلام قصيرة أنتجت في 1957 أخرجها طلبة مركز التكوين السينمائي، وهي شريط عن مركز السينما نفسها، شريط عن ممرضات جيش التحرير وهو أول شهادة حول دور المرأة في الكفاح المسلح من خلال عرض مختصر حول دورها في الثورة.
يبرز صور ومشاهد عن مهاجمة مناجم الونزة الذي هو تقديم مختصر، لإحدى العمليات الناجحة التي قام بها جيش التحرير الوطني واستهدف أهم مركز اقتصادي.
فيلم “اللاجئون” وثائقي قصير من إنتاج وإخراج بيار كليمون مدته 16 دقيقة، من بين أولى الأفلام التي أنجزت من أجل التعريف ومساندة قضية استقلال الجزائر.
الفيلم كان موجها تحديدا للعرض على هامش الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة بهدف التنديد بالتهجير القهري للجزائريين، تم عرضه من طرف التونسي هادي بن خليفة، وأنتج في 1958.
لم تكتف الأفلام السينمائية الثورية الجزائرية بتصوير الحرب والمعارك، بل حاولت نقل واقع الحياة اليومية للجزائريين أثناء الثورة من حياة البؤس والفقر التي يعيشونها، وصورت إسهامات جميع الجماهير الشعبية في الثورة.
واعترف الباحث والمؤرخ الكولومبي صاحب الكتاب المشهور “السلاح السر ي لجبهة التحرير الوطني قائلا: “كانت الكاميرا هي السلاح السري لجبهة التحرير الوطني، كانت في حقيقة الأمر أقوى من السكين والبندقية…”.
شهداء السينما
يذكر الدكتور الأحمر قادة، من جامعة سيدي بلعباس، في دراسة بعنوان “السينما في الجزائر ودورها أثناء الثورة التحريرية 1954-1962″، أسماء عديد السينمائيين الذين استشهدوا أثناء أداء مهمتهم منهم محمود فاضل، معمر زيتوني، عثمان مرابط، مراد بن رايس، صلاح الدين السنوسي، خروبي الغوتي مختار، عبد القادر بن حسينة، سليمان بن سمان، وعلي جناوي.
ويبرز أن السينمائيون كانوا يجوبون الجبال لتسجيل كل حدث جدير بأن يكون شهادة حية، صور حية تصف لنا الظروف اللإنسانية لحياة شعب زج به في المحتشدات، وأصبح لاجئا في وطنه.
ويشير إلى أن الصور الأولى المأخوذة في 1955 نقلت إلى الأمم المتحدة عبر القاهرة، والتي أعادت بثها التلفزة الأمريكية، واستطاعت هذه الصور نقل الصورة الحقيقية والرد على الدعاية الاستعمارية.
ويؤكد أن الأعمال السينمائية التي أنجزت أثناء الثورة الجزائرية، كان لها رواج كبير في الأوساط الدولية، ساهمت في تحسيس الرأي العام العالمي بالأساليب القمعية للجيش الاستعماري ضد الجزائريين. قال: “أعطت مختلف لقطات الكفاح المسجلة في الأفلام صورا مؤثرة تبقى راسخة في الأذهان”.