في ذكرى كمين باليسترو (الأخضرية) 18ماي1956 في المنطقة الرابعة ، أو عندما التحم الجيش مع الشعب في عملية عسكرية واحدة.
لم تكد الثورة تتجاوز عامها الثاني، حتى بدأ صداها يتجاوز حدود الجزائر ، بل وتأخذ حيزا من النقاش في مختلف المنابر العالمية بدء بمؤتمر باندونغ 18 أفريل 1955، الذي كان أول بوابة للقضية الجزائرية في المحافل الدولية، ثم بعدها هيئة الأمم المتحدة أكبر هيئة دولية، عندما قبلت بتسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال دورة سبتمبر 1955.
وهو ما أثار حفيظة الفرنسيين، الذين انسحبوا من أشغالها، بل جعلت روبير لاكوست يصرح قائلا: “إن ما وقع في نيويورك لهو أثمن من قافلة سلاح تدخل الجزائر “.
داخليا، بدأت الثورة في الانتشار بين الشعب الجزائري دحضا للإشاعات الفرنسية القائل بأن ما يحدث في الجزائر هو عمل قطاع طرق ومتمردين.
لذلك، عملت الثورة على كسب تعاطف الشعب الجزائري وانضمامه وتبني أفكارها وأهدافها، فكانت البداية بتأسيس الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في جويلية 1955 (UGEMA) والتحاقه بالثورة، ثم تأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين (UGTA) 24فيفري 1956، ثم التحاق القوى السياسية الجزائرية بالثورة (أحباب البيان والحرية وجمعية العلماء المسلمين أفريل 1956)، وهو ما أعطى دعما قويا لها.
أصبحت بذلك ثورة أول نوفمبر حقيقة ماثلة أمام أعين الفرنسيين، بل أثّرت حتى على السياسة الداخلية لفرنسا، بسقوط حكومة منداس فرانس يوم 05 فيفري 1955، إدغار فور يوم 01 فيفري 1956..
هذا التطور المرعب على الساحة داخليا وخارجيا، جعل السلطات الفرنسية تعمل بكل ما أوتيت من قوة من أجل عزل الثورة والقضاء عليها لذلك نجدها تتبع أساليبعديدة، منها ما هو متعلق بسياستها الخارجية مثل مفاوضتها مع تونس والمغرب من أجل نيل استقلالهما (مارس 1956)، ثم التوجه للأسلوب القمعي مع الجزائريين.
ولن يتأتّى لها ذلك، إلا برفع عدد الجنود الفرنسيين في الجزائر. يذكر المؤرخ الفرنسي جون شارل جوفري أن عدد القوات البرية الفرنسية ارتفع من 58 ألف جندي نهاية نوفمبر 1954 إلى حدود 381 ألف لغاية أوت 1956، أي بزيادة ستة أضعاف تقريبا، وهذا كله لمواجهة جيش لا يتجاوز الـ 40 ألف جندي خلال نفس الفترة يفتقد أغلبهم للخبرة والتكوين العسكري.
من جهة أخرى، أمضى رئيس الحكومة الفرنسي غي مولي، وبناء على بنود خطة الطوارئ التي أقرتها الحكومة الفرنسية بعد اندلاع الثورة مرسوما بتاريخ 12 أفريل1956، يسمح باستدعاء جنود الاحتياط إلى الجزائر للقضاء على الثورة.
هذا الأمر لم يكن ليخيف جنود جيش التحرير المتسلحين بالإيمان القوي، وحب الشهادة مثلما يحب العدو الحياة ،وبالموازاة مع عمل قادة الخارج في المجال الدبلوماسي، كان الثوار يسارعون الزمن من أجل فرض منطقهم.
رغم نقص العدد والعتاد، لكن فلسفة الثورة كانت تقتضي المواجهة والاحتكام لقواعد الاشتباك، فكان لزاما على الجنود فرض أنفسهم في ساحة الوغى، وكان السلاح هو هاجسهم الأكبر لذلك عمل جنود جيش التحرير على تطبيق مقولة عمر أوعمران للصحفي الفرنسي روبير بارا “سلاحنا نفتكه بأيدينا من عدونا”، وطبعا لن يتحقق هذا الأمر إلاّ بالقيام بعمليات نوعية.
تعتبر معركة باليسترو بتاريخ 18 ماي 1956 من أهم العمليات العسكرية، التي نفذها جيش التحرير بقيادة الكوموندو علي خوجة في هذه الفترة، إضافة إلى معركة سيدي عبد اللي بتلمسان بتاريخ 31 أكتوبر 1956، وغيرها من العمليات النوعية الأخرى.
التخطيط للمعركة ونتائجها
شهد الجيش الفرنسي بعد استدعاء جنود الاحتياط، إعادة هيكلته جزئيا، نلاحظ انه تم بعث فرقة التاسعة المشاة الاستعمارية RIC 9e، التي كانت قد حلت بعد حرب الهند الصينية، وتم تكليف العقيد فيجوي بتأهيله بتاريخ 18 أفريل 1956.
وفعلا بدأ هذا الفيلق مهمته في الجزائر بدء من 02 ماي 1956، انتقلت في بداية الأمر إلى مدينة تيزي وزو ثم برج منايل، كانت مهمة هذه الفرقة هي محاصرة المناطق التي تشهد عمليات نوعية لجيش التحرير، فتركز عملها على التدريبات البدنية، حراسة الممتلكات، نصب الكمائن، تكثيف الدوريات إطلاق النار الخ.. تم تقسيمها إلى ثلاث كتائب.
الكتيبة الأولى استقرت في منطقة دلس، الثانية في ذراع الميزان، والثالثة استقرت في منطقة باليسترو (الأخضرية حاليا)، بتاريخ 12 ماي 1956 بقيادة الملازم بيار بوانسينون، أحد أمهر القادة الفرنسيين، ومن المشاركين في معركة ديان بيان فو.
كانت مهمة الكتيبة الفرنسية الأساسية، هي مراقبة وحماية الطريق بين مدينة الجزائر وقسنطينة في هذه المنطقة، أين كانت التقارير الفرنسية تقول إن عناصر جيش التحرير تقوم بقطعه على مستوى هذا المحور.
في هذا الوقت كان علي خوجة، قائد كوموندو جيش التحرير في هذه المنطقة،وهو الذي قام بعملية فرار مهمة من ثكنة في الجزائر غنم منها 10 أسلحة شاشا و4000 خرطوشة، إضافة إلى 6 بنادق صيد، وكان يعتبر من أبرز ضباط القائد اوعمران مسؤول الولاية الثالثة، كان قد تحصل على دفع معنوي كبير بعد كمية السلاح، التي تلقاها من هنري مايو، المناضل في الحزب الشيوعي الذي أمدّ الثورة بشحنة مهمة من الأسلحة.
هذا الأمر زاد من عزيمة الثوار، وعلى رأسهم علي خوجة، الذي بدأ يخطط لتحقيق المزيد من المكاسب العسكرية على أرض الميدان من جهة، ومن جهة أخرى تزويد الثورة بالسلاح الذي كان المطلب الأول والأخير للثوار، في ظل النقص الكبير الذي كانت تعاني منه مختلف مناطق الجزائر في مجال التسليح.
هناك حادثة مهمة حصلت في هذه المنطقة قبل تاريخ الكمين بعشرة أيام، وهي إقدام الجيش الفرنسي بعمليات بشعة ضد الشعب الأعزل من تنكيل واغتصاب (حسب شهادة الكوموندو عزالدين)، ومن هنا جاءت فكرة نصب كمين محكم لهذه الكتيبة الفرنسية الجديدة الوافدة إلى المنطقة، من أجل ضرب عدة عصافير بحجر واحد (توفير السلاح، فرض منطق جيش التحرير، إثارة الشكوك في صفوف العدو ، بالدرجة الأولى في صف جنود الاحتياط).
بتاريخ 17 ماي 1956 يتّفق كل من الضابط آرتور، والملازم بوانسينيون على القيام بحملة استطلاعية-عسكرية في ضواحي باليسترو (جراح-عمّال-أولاد بولمو)، على أن يكون الاتصال بينهما كل نصف ساعة، وبدأ التحضير للعملية في المساء عندما جمع الملازم جنوده، وطلب منهم الاستعداد للمهمة وترك الرقيب كالو خلفا له.
كانت الكتيبة تتكون من ضابطي صف (الرقيب سارج بيكوت، وآلان كورليت)، و18 جندي . وتم تحديد لحظة التحرك يوم 18 ماي 1956 على الساعة السادسة والنصف صباحا، وأن يتم الانتهاء منها منتصف نهار نفس اليوم.
وصلت معلومات لعلي خوجة في وقتها المحدد من خلال الخلايا، خاصة التي أنشاها من سكان قرية جراح لمراقبة الفرنسيين وتحركهم، مفادها توجّه كتيبة مكونة من 21 عسكري فرنسي نحو قرية جراح،بدأ في الاستعداد للكمين باتباعه أسلوبا عسكريا وتكتيكا حربيا، من شأنه أن يحقق نتيجة كبيرة ومهمة.
فكان أول شيء قام به هو مراقبة هذه الكتيبة عن كثب، ثم قام بتقسيم جنوده البالغ عددهم حسب الاحصائيات بـ40 جندي إلى أربعة أقسام، موزعين على نقاط مختلفة على طول طريق سير الجيش الفرنسي.
وحسب المجاهد المحافظ السياسي محمد مامش، المدعو لخضر، أن علي خوجة وضع ثلاث نقاط يمكن من خلالها مراقبة تحرك جيش العدو، والاشتباك معه في اللحظة الحاسمة، واحدة عندما يبدأ الطريق يضيق ووضع فيها قناصا، والنقطة الثانية في منتصف الطريق، والأخيرة عند آخر جندي فرنسي حتى يسهل القضاء عليهم في أقصر وقت ممكن، ثم قام بإقامة أسلاك شائكة على حواف الطريق حتى لا يستطيع من تبقى من أفراد جيش الاحتلال الفرنسي من الفرار.
وفعلا بدأ إطلاق النار في حدود الـ11.15، وكان قائد الكتيبة آرتور مع الراديو أول من سقط في الكمين، وفي أقل من عشرين دقيقة كانت المهمة قد تمت بنجاح أين تم القضاء على 18 جندي فرنسي وأسر اثنين،في المقابل سقوط شهيد جزائري واحد فقط.
وقد غنم الجيش الجزائري كل الأسلحة باستثناء الراديو الذي كان ثقيلا ويصعب من مهمة الانسحاب، وبعد الانتهاء من العملية تم انسحاب أعضاء جيش التحرير المشاركين في الكمين، وتقسيمهم في شكل مجموعتين، الأولى تتكون من 20 مجاهد، إضافة إلى الأسيرين وتوجهت نحو جبال تيفران، والثانية بقيادة علي خوجة واتجهت نحو جبال بوزقزة.
بعد العملية، مشطت السلطات الفرنسية بأوامر من الجنرال ماسو، المنطقة كاملة بجيش قوامه 3000 جندي كانوا يتتبعون آثار علي خوجة وجنوده، و قاموا بالتنكيل بسكان القرية في عقاب جماعي لهم ، وتم توقيف أكثر من 300 مشتبه مشارك في العملية.
انعكاس المعركة على الثورة
يقول الرائد عز الدين إن الشعب الجزائري وخاصة سكان هذه المنطقة شاهدوا لأول مرة معركة ينتصر فيها جيشه أمام أعينه، لذلك كان متحمسا للغاية لدرجة أن بعضهم أخذ الخنجر وساهم في العملية بطريقته الخاصة.
نزل الشعب حاملا للخناجر والسكاكين، والتحم مع أفراد جيش التحرير في معركة كانت حلم كل جزائري ناقم على فرنسا بأن يشارك فيها، بل يعتبر بعض المؤرخين الفرنسيين مثل رافييل بلانش، صاحبة كتاب “كمين باليسترو في الجزائر 1956″، أن سكان باليسترو لا يزالون يحملون حقدا دفينا للفرنسيين، بسبب ما وقع في المنطقة من قتل وتشريد ومجازر للسكان، وسلب أراضيهم عنوة خلال مقاومة الشيخ المقراني 1871.
لذلك ما إن سنحت لهم الفرصة حتى دفعوا بأنفسهم من أجل الأخذ بالثأر.
من جهة أخرى ، اعتُبرت العملية بأنها غير عادية لأانها وقعت في وضح النهار، وهو أسلوب اعتمده علي خوجة منذ استلامه زمام الأمور في منطقته، حيث غيّر من تكتيكه الحربي فكان يأمر جنوده بالخروج نهارا بدل الليل فقط، حتى يستأنس بهم الشعب ويرى جيشه أمام أعينه.
ولا يبقى رهين الاشاعات والدعاية الفرنسية فقط، ويعتبر كمين باليسترو أنموذجا ناجحا لاستراتيجيته العسكرية هذه بسبب النتائج التي ترتبت عنه، كان للعملية صدا واسعا خاصة في أوساط المجتمع الفرنسي، وتناقلته معظم الصحف الفرنسية مثل le parisien -le Journal d’Alger -le monde ..
يذكر المؤرخ الفرنسي بنجامين سطورا أن كمين باليسترو كان لحظة قوية بالنسبة للرأي العام الفرنسي، الذي اكتشف لأول مرة حقيقة الحرب، ففي هذا الكمين سقط شباب فرنسي غير مكون عسكريا ينتمي للطبقة العاملة والفلاحين أي من عمق المجتمع الفرنسي، ممن كانوا يعتبرون انفسهم بعيدين عن ساحة المعركة وأن ما يجري في الجزائر شأن لا يخصهم.
كانت هذه المعركة وما ترتبت عنه من نتائج منعرجا حاسما في حياة الفرنسيين، وهذا ما يزيد من الضغط الشعبي على السلطات الفرنسية وضرورة إيجاد حل للقضية.
قضى الكمين على الدعاية الفرنسية القائلة أن ما يحدث في الجزائر هو من تنفيذ عصابات إجرامية لا تستند لأي دعم شعبي، فكان الرد من طرف الشعب بالمساهمة في المعركة سواء في المراقبة قبل المعركة و الالتحام اثنائها.
ولا ننسى الجانب الإنساني للثورة، التي جسّدها علي خوجة بعد النتائج الباهرة التي حققها، إذ ورغم رد الفعل الهمجي من طرف فرنسا، لكن أطلق سراح الأسير الفرنسي بيار دوماس، وكان قبل ذلك قد تركه يكتب رسائل لأهله، وما جاء في رسالته وبشهادته هو المعاملة الحسنة التي كان يتلقاها من جيش التحرير، ومن قائده علي خوجة شخصيا الذي كان يطعمه مما يأكل.
في الأخير، نقول إن عظمة الثورة، كانت تكمن في إيمان الشعب بجيشه والتحامه معه، فرغم معرفته المسبقة بتبعات العمليات العسكرية وهمجية ووحشية الفرنسيين في الانتقام، لكن كان كل مرة يقف خلف جيشه ويدعمه بكل ما أوتي من قوة حتى وصلت الثورة لغايتها المنشودة.
أ.د محمد قدور
المركز الجامعي تيبازة