على غرار حلوى الـ”ميلفوي” (Millefeuille)، أصبح الـ: «كرواسان» (Croissant) جزءا لا يتجزأ من تقاليد الطبخ الجزائرية وكأنه حقا «وليد القاع والباع»، بل ويتطاول على حلويات عريقة ضاربة الجذور على الموائد الجزائرية، على غرار «الشريك» وخبز «البويا» (Poya) الأندلسي/الموريسكي و”خبز الدار”.
بعد أن رسخ أقدامه في كل بلاد الله والأصقاع، رغم أنه جاء قبل فقط نحو 100 عام، أو أكثر بقليل، ضمن أحمال وأمتعة الغزاة المحتلين الفرنسيين الراغبين في الربح والانتفاع…
نكسة القوات العثمانية عند أسوار مدينة فيينا سنة 1683 م…ميلاد الـ «كرواسان»
في سنة 1683م، بينما كانت القوات العثمانية تحكم الحصار على مدينة فيينا النمساوية للاستيلاء عليها، حاول رجال السلطان محمد الرابع بقيادة الوزير، «الصدر الأعظم»، قارة مصطفى، التسلل إلى المدينة بحفر أنفاق تحت أسوارها وإطلاق هجومٍ كاسحٍ وحاسم عليها…غير أن ما لم يكن في الحسبان قد وقع وأفسد الخطة، وأفشل الهجوم النهائي والحصار برمته.
خلال عمليات الحفر، تنبه الخبازون النمساويون، الذين ككل الخبازين يبدأون عملهم خلال الساعات الأخيرة من الليل، إلى أصوات ارتطام الفؤوس بالتربة والصخور تحت الأرض، فسارعوا، أو على الأقل أحدهم يدعى Adam Spiel (آدم شبييل)، إلى إبلاغ سلطاتهم بالأمر الذي بدا لهم مشبوها.
وكان ما فعلوه الضربة القاضية على المشروع العثماني لاقتحام أسوار مدينة فيينا النمساوية ودخولها فاتحين والسيطرة عليها، لأن القوات النمساوية وتلك المتحالفة معها، القادمة من مختلف جهات أوروبا المسيحية لاسيما من بولنده وألمانيا، كانت، مثلما صمدت فوق الأرض، بالمرصاد لمحاولة التسلل العثماني إلى مدينتهم من تحتها من أجل فتح أبوابها في وجه الجيوش الإسلامية التي قدرت حينذاك بنحو 200 ألف عسكري.
فشل الحصار، إذن، وعادت القوات العثمانية إلى إسطنبول تجر أذيال الخيبة، وانتهى إلى الأبد حلم سلاطين آل عثمان بالاستيلاء على النمسا، قلب القارة «العجوز» النابض من الناحية الإستراتيجية، والتي انطلاقا منها طمحوا إلى إحكام قبضتهم لاحقا على كامل أوروبا، وربما حتى إلى استرجاع «الفردوس المفقود»: الأندلس…
في المقابل، أقام النمساويون احتفالات كبيرة بالنصر بعد معاناتهم من حصار قاسٍ دام من شهر يوليو 1683م إلى منتصف أيلول/سبتمبر من العام ذاته.
وأبى الخبازون إلا أن يسجلوا مساهمتهم الحاسمة في هذا الحدث العظيم في التاريخ، خلال تكريمهم من طرف إمبراطورهم، بابتكار منتوجٍ جديد يخلد هذه الذكرى على مر الأجيال، فوقعوا بالتالي شهادة ميلاد كعكة الـ «كرواسان» التي تم عجنها في شكلٍ هلالٍ يرمز إلى هلال الراية العثمانية وإلى العالم الإسلامي بشكل عام.
هكذا إذن جاءت هذه الحلوى، أو الخبز الحلو، إلى الوجود في مدينة فيينا قبل قرابة ثلاثة قرون ونصف القرن من قلب زخم قعقعة السيوف وصياح الفرسان والرماة، وصهيل الخيول وغبار المعارك ونزيف دماء القتلى، وأنين الجرحى عند هذا الطرف وذاك.
إذا كانت هذه الرواية قد ترسخت في الأذهان، كما في الكثير من المؤلفات، طيلة القرون الأخيرة، فإن مؤرخي الغذاء البشري وفنون الطبخ أصبحوا يشككون فيها بل ويرفضها بعضهم رفضا قاطعا معتبرين إياها مجرد خرافة جادت بها قرائح الفلكلور الشعبي في النمسا وفي كامل أوروبا في أوقات لاحقة تلت فشل حصار فيينا، ربما، بعقود طويلة. السبب…؟
هل للـ «كرواسان» جذور في الحضارات الشرقية القديمة وما تلاها…؟
السبب يعود لكون الخبز المشكل في هيئة هلال، الحلو أو المالح على حد سواء، وحتى في شكل قرنٍ حيواني الذي هو بشكل أو بآخر عبارة عن نصف هلال، سابق بأزمنة بعيدة لحصار فيينا الثاني وموجود منذ آلاف السنين في مختلف الحضارات القديمة في مصر الفرعونية، حيث كان يقدم قربانا من القرابين للآلهة المصرية، وفي العراق الآشورية والبابلية، كما في الحضارة اليونانية.
في البلاد المسيحية، ارتبط، بعد ظهور الديانة النصرانية، بالطقوس الروحية في الكنائس، مثلما هو الشأن في النمسا ذاتها، على الأقل في بداية القرن 11م، قبل أن يعثر الباحثون في تاريخ طيبات الطعام في الكنائس وما تيسرمنه بها من الألوان، ولاحقا في البيوت على الموائد في الخوان، على أول أثرٍ مكتوب لهذه الحلوى/الخبز في مدينة فيينا سنة 1227م باعتبارها طعاما من الأطعمة «الدنيوية» بعيدا عن الاعتبارات الدينية.
وكان ذلك عندما أهداها خبازو مدينة فيينا لدوق بابينبيرغ (Babenberg) النمساوي ليوبولد المجيد (Leopold The Glorious) (1176م-1230م) يقول الباحث الأمريكي في تاريخ الأغذية البشرية جيم شوفالييه (Jim Chevallier) في كتابه القيم August Zeng and the French Croissant : How Viennoiserie Came to France (أوغيست زانغ والكرواسان الفرنسي: كيف جاءت صناعة الخبز الفييناوية إلى فرنسا).
وكانت هذه الكعكة تسمى، حينها، عند النمساويين الـ «كيبفيل» (Kipfel)، ومعناه «الهلال» باللغة العربية، وأيضا الـ Croissant باللغة الفرنسية، و El Cruasán باللغة الإسبانية و El Cachito (كاتشيتو) في إسبانية كل من البيرو وفنزويلا والإيكوادور و La Medialuna (القمر المنتصف) في كل من الأوروغواي والشيلي والأرجنتين وباراغوي، فضلا عن El Cuernito (القرن) في دول أخرى من أمريكا الجنوبية وخارجها…
من جهة أخرى، الحلويات ذات الشكل الهلالي كثيرة في تاريخ الطبخ في الحضارة الإسلامية منذ القرون الأولى لظهور هذه الديانة، سواء أكان ذلك في المشرق أو في المغرب الإسلامي والأندلس.
ولعل أحدها ما زال صامدا على الموائد، لاسيما في الأعياد الدينية، إلى اليوم، وهو الـ «تشاراك»، بمختلف أنواعه «العريانة» و»الملبسة»، حسب اسمه التركي/العثماني الصيغة الشائع في مدينة الجزائر، أو «قرن الغزال» وفقا لصيغته العربية الرائجة في قسنطينة، والشرق الجزائري بشكل عام، وحتى في العديد من المدن الغربية للبلاد وفي البلدان العربية. وهو ما تشهد عليه المؤلفات الإسلامية المتخصصة في فن الطبخ على غرار كتاب ابن رزين التجيبي الأندلسي «فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان» وكتاب «الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين» الذي ما زال كاتبه مجهولا إلى اليوم…
كما نعلم أيضا أن فرنسا، وليس النمسا لوحدها، عرفت هي الأخرى كعكة هلالية الشكل الهندسي في مطابخ القصور الملكية في القرن 16م، على الأقل، لكن لا نعرف على وجه التحديد من أين وكيف جاءت إليها وإلى غيرها من البلدان الأوروبية بما فيها الإمبراطورية النمساوية…
شبهات.. وشكوك.. بسبب تعدد الروايات
في أوقاتٍ لاحقة، ازداد الـ «كيبفيل» النمساوي، بنسختيه الحلوة والمملحة، شعبية على مدى أجيال في الأراضي النمساوية، يقول الخبير البلجيكي وصاحب عدة مؤلفات في تاريخ الغذاء والطبيخ بيير لوكليرك (Pierre Leclercq)، قبل حصار فيينا الثاني الذي قاده «الصدر الأعظم» مصطفى قارة.
ولو أن ذلك لا يمنع مبدئيا من إمكانية قيام خبازي مدينة فيينا بإضافة لمسة خاصة عليه بمناسبة إفشالهم الحصار لتخليد دورهم في هذه الذكرى العظيمة والحاسمة في تاريخ البلاد.
مع ذلك، تبدو شكوك الباحثين والمؤرخين المعاصرين، في الحقيقة، مبررة إلى حد ما على الأقل، لأن للرواية النمساوية ضرة في المجر تتنافس معها على تبني ابتكار هذه الحلوى/الخبز. المجريون وبعض الأوروبيين يتداولون بهذا الشأن رواية مختلفة، مقارنة بالسابقة، معدلة في بعض تفاصيل شهادة ميلاد الـ «كرواسان»، لأن بمقتضاها تصبح هذه الحلوى/الخبز من «مواليد» مدينة بودابيست عاصمة المجر.
وبالتالي، تشهد النور، عند خسارة العثمانيين سنة 1686م العاصمة المجرية بسبب إبلاغ أحد الخبازين المجريين في المدينة الصليبيين عن هجوم عثماني وشيك عبر خنادق كانت تحفر سرا في غسق الليل، وذلك رغم أن العثمانيين في بودابيست هم من كانوا تحت الحصار وليس العكس، مما يجعل رواية حفرهم خندقا لا تبدو مقنعة…
على كل، في هذا الحصار، الذي جرى في سنة 1686م، ضاعت بودابيست من العثمانيين نهائيا بعد خضوعها لهم لنحو قرنٍ ونصف القرن إثر هجومٍ ضخم للتحالف المسيحي الأوروبي بقيادة آل هابسبورغ تخلله قتال شرس وخسائر كبيرة في صفوف المسلمين، وأيضا اليهود الذين اعتبروا من طرف المسيحيين حلفاء وعملاء لـ «الأعداء»…
هل تعتقدون أن هاتين الروايتين هما الوحيدتان اللتان انبثقتا من قلب المعارك العثمانية الصليبية الأوروبية؟ بالطبع لا، لأن هناك على الأقل رواية أخرى رائجة إلى اليوم، لاسيما في أوساط الإعلام، تنسب ظهور القهوة كمشروب شعبي يتداول في المقاهي النمساوية، كما كان الحال في مقاهي بلاد الإسلام العثمانية وغير العثمانية، إلى ضابطٍ ودبلوماسي سابق نمساوي شارك في إفشال حصار فيينا الثاني ونال ضمن الغنائم التي كوفئ بها 300 كيس من القهوة كان العثمانيون قد تركوها خلال انسحابهم من أرض المعركة.
ويقال، والعهدة على الرواة، إن القهوة لم تكن معروفة في بلاد هذا الضابط آنذاك. لذلك، عندما قرر بيعها لأول مرة في أول محل من نوعه أقامه لهذا الغرض في مدينة فيينا وفي كل البلاد، لم يلق إقبالا عليها، فاضطر إلى تعزيز حظوظ تسويق قهوته لدى النمساويين بطلبه من أحد الخبازين أن يبتكر له حلوى جديدة ترافق شرب القهوة تكون أشبه بالهلال، رمز الإسلام والإمبراطورية العثمانية، مستغلا اقتصاديا زخم الانتصار على جيوش مصطفى قارة.
وبنجاح الفكرة، يقول الرواة، يكون هذا الضابط والدبلوماسي السابق، الذي سبق له أن عرف القهوة خلال أسفاره إلى البلاد الإسلامية، قد وقع شهادة ميلاد أول المقاهي النمساوية وطقوس شرب القهوة في بلاده وكذلك شهادة ميلاد الحلوى الهلالية الشكل التي نسميها اليوم الـ «كرواسان»…
تبدو هذه الرواية جميلة وممتعة، فمن أعجبته منكم وشاء أن يصدق فله ذلك. لكننا، وبصراحة، سنعجب أكثر بمن يكذبها، لأن، عند مقارنتها بالوقائع التاريخية المؤكدة، نجد أنها لا تصمد ولا تقوم على «ساس ولا راس»، كما يقال، وسنعتبر المصدقين، بالتالي، من القوم المؤمنين بوجود الغول ومن الذين كانوا في المدرسة الابتدائية يعملون على التخلص من المعلم، لأيامٍ على الأقل، بإجباره على عطلةٍ مرضية بوضع شعرة حميرٍ على كرسيه تقتلع عادة من الذيول…
في كتابه August Zeng and the French Croissant : How Viennoiserie Came to France، يضيف الباحث الأمريكي جيم شوفالييه بأن هناك من ينسب ابتكار الـ «كرواسان» إلى خبازٍ من خبازي مدينة فيينا اسمه بيتر ويندلر (Peter Windler) وزوجته في أعقاب فشل الحصار العثماني الثاني لمدينتهما وأن هذا الإنجاز تم في مخبزتهما العريقة التي كانت تحتضن باستمرار نفس النشاط منذ سنة 1585م.
بالنسبة لجيم شوفالييه، كان يمكن تصديق هذه الرواية لو لم يظهر لاحقا أن المعني بالأمر قد توفي، حسب أرشيف الوفيات في المدينة، سنة 1680م، أي قبل 3 سنوات من حصار فيينا الثاني. وعلى خطى كارل شيمر (Karl Schimmer)، الذي طعن منذ سنة 1879م في مصداقية هذه الرواية، يتساءل جيم شوفالييه مرتابا: لو كانت فعلا صحيحة، لماذا لم يذكر إنقاذ خبازي فيينا، المزعوم، مدينتهم من الهجوم العثماني، في مصادر تاريخية أو وثائق أخرى غير المتعلقة بتاريخ الطبخ…؟
فوق كل ذلك، وليس بعيدا عن النمسا، قد يحتج الإيطاليون بدورهم على اعتبار الـ: «كيبفيل» نمساويا صرفا، لأن بلدهم عرف، هو الآخر، كعكتين مشابهتين له. اسم أحدهما قريب من نظيره النمساوي، وهو Chifelle (كيفيللي)، يقول الأمريكي جيم شوفالييه، والآخر هو «كورنيتو» (Cornetto)، ومعناه قرن الحيوان، وهو لا يختلف كثيرا شكلا ومضمونا عن الـ «كرواسان». ويتردد، دون دليل، أن دخوله إلى إيطاليا تم عن طريق مدينة البندقية في القرن 17م قادما إليها من مدينة فيينا.
لكن لا مانع أيضا من أن يكون من المؤثرات العثمانية والشرقية الإسلامية الكثيرة التي عرفتها مبكرا هذه المدينة الإيطالية.
ويستنتج جيم شوفالييه بالقول في كتابه سابق الذكر عن تاريخ الـ «كرواسان» بعد عرضه ما تقدم من معطيات: «ممكن أن تكون إيطاليا، عبر حادثٍ تاريخي عرضي، قد نقلت الكرواسان لفرنسا، بالشكل الذي هو عليه اليوم في بعض مناطق إيطاليا، أي الكورنيتو (Cornetto)، ويعني…الكرواسان…».
وإذا كانت هذه النظرية تفجر القناعة الفرنسية النمطية بشأن الجذور النمساوية للـ «كرواسان» في بلادهم، فإن شوفالييه يزيد الأمر تعقيدا وغموضا عندما يشكك دون مواربة في وجود أي ارتباطٍ «عائلي» أو «قبلي»، أو حتى «وراثي»/تاريخي بعيدٍ، بين الـ «كيبفيل» والـ «كرواسان» معتبرا الجزم بأن الـ «كيبفيل» هو الـ «كرواسان» ذاته «لا يختلف عن الحديث عن الماموث مع تسميته بالفيـل»…
بأي حالٍ من الأحوال، وبعيدا عن كل هذا الجدل الذي لم ينته بعد، كيف جال الـ «كرواسان» وصال في أرض الله حتى حط الرحال في فرنسا قبل أن ينتهي به المطاف في مخبزات الجزائر وفي غيرها من بلاد العالم…؟
الرحلة التاريخية الطويلة من فرنسا إلى الجزائر..
يشيع في فرنسا، منذ القرن 19م على الأقل، أن الـ «كرواسان» ما كان معروفا في هذا البلد قبل زواج الملك لويس السادس عشر من الفتاة النمساوية ماري أنطوانيت (Marie-Antoinette) التي ينسب إليها جلب عادات الطبخ السائدة في بلادها، وفي مدينة فيينا على وجه الخصوص، في سنوات 1770م إلى القصر الملكي في فرساي (Versailles)، القريبة من باريس، بما فيها حلوى/خبز الـ «كيبفيل»، وبعبارة فرنسية الـ «كرواسان»، قبل أن ينتشر لاحقا، بعد عقود، في كامل أراضي البلاد.
لكن حتى هذه الرواية لم تعد تحظى بالقبول في الأوساط العلمية التي تفضل عليها الحقائق الموثقة والمؤكدة بشكل لا لبس فيه لترد ما للقيصر للقيصر، كما يقال، وما لغيره لغيره.
بعيدا عن الملكة ماري أنطوانيت وما ينسب إليها من رقي وتحضر وابتكار لفنون الزينة واللباس والأكل، مثلما فعل زرياب في الأندلس، بحكم انحدارها من مملكة النمسا التي كانت إحدى أقوى الدول الأوروبية وأكثرها رقيا وازدهارا ثقافيا، ولأنها أيضا ابنة إحدى أكبر العائلات الملكية في أوروبا، عائلة هابسبورغ، ما جعلها محط أنظار الفرنسيين في مجال الموضات الهندامية والغذائية، وبعيدا كذلك عن مشاكلها السياسية التي انتهت بها وبزوجها الملك إلى المقصلة خلال الثورة الفرنسية، يهتم الباحثون في تاريخ الـ «كرواسان» بالضابط النمساوي السابق أوغيست زانغ (August Zang)، بشكل خاص، وشريكه، لمدة عام على الأقل، إيرنيست شوارتزر (Ernest Schwarzer).
يشهد الجميع، ودون أدنى شك، على أن أوغيست زانغ كان أول من فتح حوالي سنة 1839م في العاصمة الفرنسية باريس بـ 92 شارع ريشليو (Rue Richelieu)، غير البعيد عن ساحة الأوبرا (Place Opéra) وشارع ريفولي (Rue de Rivoli)، مخبزة على نمط المخابز النمساوية الشهيرة آنذاك بتقنياتها المتطورة وبأفرانها البخارية التي تجعل مختلف أنواع الخبز والـ «كرواسان» عند اكتمال طهيها لامعة وذهبية اللون.
وكان اسم هذه المخبزة، التي تخصصت في صنع الخبز والحلويات النمساوية، Boulangerie viennoise (المخبزة الفييناوية). وبفضلها، اكتشف الباريسيون وكل الفرنسيين الـ: Pain viennois (الخبز الفييناوي) الذي يعتبر جد الخبزة الطويلة والنحيفة الشهيرة اليوم في فرنسا كما في الجزائر بـ La Baguette (الباقيطة)…
لم يتصور حينها الضابط/الخباز النمساوي أن مشروعه كان سيلقى كل هذا الإقبال والنجاح اللذين حظي بهما في مدينة «الجن والملائكة»، ولا تخيل أن صناعة الخبز والحلويات بها بأسلوب مدينة فيينا ستصبح تخصصا قائما بذاته تحت اسم La viennoiserie (الفييناوية).
كما لم تخطر على باله قبل مباشرته المشروع أن خبزه وحلوياته ستتحول إلى موضة في فنون الطعام بفرنسا، مثلما أصبح طبق الكسكس في نهاية القرن 20م وبداية القرن الحالي، وأن مختلف منتوجاته الفييناوية/النمساوية، بما فيها الـ «كيبفيل» الذي سيصبح معروفا بمرادفه الفرنسي الـ «كرواسان»، ستشهد، انطلاقا من باريس، رواجا عالميا بعد إقبالٍ عليها غير متوقع من طرف النخب والأثرياء الباريسيين في بداية التجربة ثم من طرف عامة المواطنين في أوقات لاحقة…لكن لا يبدو أن هذه الفييناويات كانت في تلك الحقبة قد عبرت البحر الأبيض المتوسط بعد إلى الجزائر التي كانت تحت وطأة الاحتلال الفرنسي منذ بضعة عقود…
وإذا كانت مخبزة أوغيست زانغ لم تنجح في التعمير طويلا حيث أدت الاضطرابات السياسية والأمنية في باريس في نهاية أربعينيات القرن 19م إلى عودته من حيث أتى ليباشر في عاصمة بلاده تجربة جديدة بالاستثمار في الصحافة، إلا أن الـ: «كرواسان» كانت قد شقت طريقها بثبات ورسخت أقدامها ليس في مخابز البلاد فحسب بل حتى في أعمال كتابها وأدبائها ومثقفيها وفي لوحات رساميها لتعرف منذئذ في مختلف أرجاء العالم كحلوى/خبز فرنسية «أصيلة»…
وهكذا، نعثر على ذكر مبكرٍ لها في قاموس «ليتري» (Littré) الشهير في عام 1863م قبل أن يضيفها بعد 6 سنوات بيير لاروس (Pierre Larousse) إلى قاموسه الشهير Grand dictionnaire universel du 19ème siècle (القاموس الكبير العالمي للقرن 19م) سنة 1869م بعد أن سبقهما ورودها في بعض المؤلفات والأعمال الأدبية بين عامي 1850م و1853م. وابتداء من سنة 1872م، لم تعد هذه الكعكة غريبة في عدد من دول الجوار كبريطانيا، لاسيما أنها فرضت نفسها أثناءها في أعمال الأديب الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنس (Charles Dickens)…
لكن، حتى تتضح الأمور، لم يكن ذلك الـ «كرواسان» مثلما نعرفه اليوم، لأنه، وإن احتفظ بشكله الهلالي العتيق الضارب في القدم عبر تاريخ الحضارات البشرية، حسب العديد من النظريات، إلا أنه كان يصنع من عجين الخبز وليس، كما هو الشأن اليوم، من العجين المورق والـ «مارغارين» (Margarine)، التي حلت منذ عقود محل الزبدة لكلفة هذه الأخيرة المرتفعة، ولبعض الصعوبات التقنية التي تتسبب فيها خلال عملية العجن.
ولا كان الـ «كرواسان» خلال تلك الفترة يتضمن كل الكميات التي يتضمنها في الوقت الحالي من السكر ومن المواد الدسمة التي لم تكن متاحة للجميع…وما يكاد لا يعرفه الناس اليوم، هو أن الـ «كرواسان» المصنوع من العجين المورق لم يظهر لأول مرة في فرنسا على يد الخبازين الفرنسيين المتخصصين في الـ «فييناويات»، كما في كل العالم، إلا في سنة 1905م في تطور تاريخي غير مسبوق في مشوار هذه الكعكة. وتلاه تطور ثانٍ في فرنسا مرة أخرى، ولا يقل أهمية عن سابقه، يتمثل في إدخال الزبدة لأول مرة في عجينته ابتداء من بداية سنوات 1920م.
لكل ذلك، فإن «كرواسان» البدايات في فرنسا خلال النصف الثاني من القرن 19م ليس كـ «كرواسان» اليوم. وفوق كل ذلك، إن الهوة تتسع مع مرور الزمن بين الأجيال الأولى لهذه الكعكة والأجيال الحالية، بين الـ «كيبفيل» الفييناوي الذي أهدي للدوق ليوبولد سنة 1227م والـ «كرواسان» الحديث الذي نعرف اليوم والذي بدأ بدوره يفرخ «كرواسانات» جديدة بأسماء مختلفة ومتنوعة مشتتة حول العالم، من الولايات المتحدة الأمريكية إلى اليابان ومن دول البلطيق وشبه الجزيرة الإسكندينافية إلى أدغال إفريقيا ورأس الرجاء الصالح.
وقد تؤول هذه الذرية الكرواسانية المتعددة، إذا لم تكن من الذرية الصالحة وجانبت الوفاء، إلى مطالبتها في يوم من الأيام بـ «الاستقلال» عن الـ «الكرواسان» الأم، أو بـ «الحكم الذاتي» في أدنى تقدير، عندما تشعر باشتداد ساعدها وتجد من يسايرها لتصبح كعكات بهويات قائمة بذاتها.
عندما يطيح فطور الصباح الفرنسي بنظيره الجزائري
إذا واصلنا هذه الرحلة عبر التاريخ واجتزنا البحر الأبيض المتوسط إلى ضفته الجنوبية لنرسو في مياه مدينة الجزائر قبالة «بهجة» سيدي الثعالبي عبد الرحمن، فكل هذه التفاصيل التي مر بها انتقال الـ: «كرواسان» من طفولتها المفترضة في العاصمة النمساوية فيينا إلى مراهقتها ثم بلوغها سن الرشد في نظيرتها الفرنسية باريس.
تؤكد أن من غير الممكن تصور دخول هذه الحلوى/الخبز قبل بداية القرن 20م إلى الجزائر وحلولها بمخابز «قصبة» الجزائر والبليدة والقليعة والـ «سويقة» بقسنطينة وبعنابة وقالمة وبمخابز حومة سيدي الهواري بوهران أو بباب الجياد في تلمسان أو حتى في بسكرة وورقلة وتندوف وتقرت وتمنراست وغيرها من جهات البلاد.
ولا يبدو أن هذا الخبز/الحلوى شاع في أوساط الجزائريين قبل الحرب العالمية الثانية، بالضبط مثلما وقع مع حلوى الـ: «ميلفوي»، لقلة اليد من جهة، ومن جهة أخرى لأننا نعرف من المصادر الفرنسية أن الـ «كرواسان» لم يتصدر موائد الفرنسيين ذاتهم عند فطور الصباح، بشكل شبه شامل وراسخٍ حتى أصبح بمقتضاه تقليدا وطنيا، إلا في سنوات 1950م عندما أصبح هذا النمط من الفطور شيئا فشيئا موضة حتى في مستعمراتها، بما فيها الجزائر، في الأوساط الاجتماعية ميسورة الحال.
بالمناسبة، لم يكن الجزائريون قبل الاحتلال الفرنسي في عام 1830م من هواة تناول الحليب والحلويات عند فطور الصباح بل كانت الغالبية الساحقة تأكل وجبة أشبه بما يتناول في الغذاء والعشاء، بما فيها الأكل المتبقي عن الليلة السابقة أو «البايت»، بخضره وبقولياته وزيته الزيتوني وحتى اللحم، لمن استطاع إليه سبيلا، كما كان يحدث وما زال يحدث، في الكثير من دول العالم…
غير أن الاحتلال، الذي لم يكن عسكريا أو اقتصاديا فحسب بل تغلغل حتى في أعماق الثقافة الاجتماعية للجزائريين لاسيما في المدن الكبرى والمتوسطة، وكذلك الاحتكاك بثقافته وتقاليده، غير من بين ما غيره الأنماط الاستهلاكية الجزائرية التي من ضمنها هوية فطور الصباح الجزائري وبنيته حتى لا نكاد اليوم نتصور هذا الفطور دون الحليب والقهوة، أو كوكتيل من الاثنين، والكعكات الجزائرية والفرنسية، بما فيها الـ «كرواسان» والـ «بريوش» (Brioche) أو الـ «ميلفوي» (Millefeuille)، على حد سواء.
وحتى الخبز المحشو بالزبدة (Tartine) وذلك أضعف الإيمان. وكأن الجزائريين منذ عهد القائد العظيم حنابعل والقديس أوغستين العنابي والكاهنة وكسيلة وحتى عقبة بن نافع الفهري والفتى الفاتح ابن زياد ومن سبقهم وتلاهم لم يتناولوا صباحا إلا هذا الفطور الفرنسي..
على كل، كان واضحا، منذ دخول قوات الجنرال دوبورمون (Debourmont) «دار السلطان» في أعالي «بهجة» سيدي عبد الرحمن، أن قدر الفطور الصباحي الجزائري سيتغير مذاقه ويصبح بعد فترةٍ حلوا مسكرا سيرا على نهج الـ «ميتروبول» وإيقاع موضات عاصمتها باريس بعد أن كان لقرون طويلة وجبة مالحة بالدرجة الأولى…
وللمزيد من الإيضاح، فإن توقيت فطور الصباح ذاته الذي كان موعده في العهد العثماني فجرا، وحتى الغذاء والعشاء، لم يصمد بعد مجيء الاستعمار، حيث اضطر لمسايرة نمط الحياة الجديد الفرنسي الرأسمالي وإيقاعه في المدن الكبرى والمتوسطة، على الأقل، حيث تأخر إلى ما بين السادسة والسابعة صباحا حسب الظروف التي تفرضها طبيعة أعمال ووظائف الناس.
أما موعد الغذاء، الذي كان قبل الاحتلال يأتي بين التاسعة والنصف والعاشرة صباحا عند عامة الناس والخاصة بمن فيها الداي والخزنجي والباي والرايس والآغا والصبايحي، فقد انتقل إلى منتصف النهار أو أبعد بقليل كما نفعل اليوم، فيما تأخر العشاء الذي كان يتم بعد العصر، مقترنا بنهاية العمل، إلى الليل، قبيل أو بعد صلاة العشاء.
في الحقيقة، هذا التحول الغذائي الاجتماعي عرفته فرنسا ذاتها تدريحيا على يد الأثرياء و»النبلاء» مع حلول القرن 19م، لأنهم كانوا يستيقظون متأخرين بين الثامنة والتاسعة صباحا فيكتفون بفطورٍ خفيف حتى لا يشوشون على بطونهم ويتركوا فيها مجالا لتناول وجبة الغذاء بين منتصف النهار والواحدة بعد الظهر، فيما كان عامة الفرنسيين ومتواضعو الحال منهم، لحاجتهم إلى القوة التي تمكنهم من مباشرة أعمالهم القاسية منذ طلوع الفجر، يتناولون مبكرا فطورا لا يكاد يختلف عما كان يتناوله غيرهم في الجزائر وفي غيرها من غالبية البلدان إلا في التفاصيل حيث كان الحليب والقهوة والسكريات إلى بداية القرن 20م، على الأقل غرباء تقريبا عن الموائد، لاسيما في الأرياف التي لا تعرف البذخ في الأكل وتزيين الموائد بمختلف الأصناف.
الـ «كرواسان الوهراني»
مثلما حدث للـ «ميلفوي» الذي جاء البلاد فرنسيا ثم تجزأر (من الجزائر) بلمسات خبازينا وحلوجيينا الخاصة وفاق طعما وخفة ولذة «جده» الغازي الفرنسي، فإن مصير الـ «كرواسان» لم يكن مختلفا كثيرا في ترسيخ أقدامه في الجزائر مع تباينٍ طفيف في التفاصيل.
وقد أجرى عليه المستوطنون الأوروبيون من جهتهم تعديلات لاحقا ليستخرجوا منه ما أطلقوا عليه: الـ «كرواسان الوهراني» (Le croissant oranais) الحامل في جوفه بالمشمش الجزائري والـ: «كريمة» الفرنسية المعهودة في الـ: «ميلفوي». وبعد انتشاره في كل من الجزائر أولا ثم في فرنسا، لاسيما بعد رحيل الأوروبيين عند استقلال بلادنا سنة 1962م، وكذلك في إسبانيا وبلجيكا، وهما البلدان اللذان تنحدر منهما نسبة كبيرة من أوروبيي الجزائر «الفرنسية» خلال عهد الاحتلال، أصبح الـ «كرواسان الوهراني» يعرف بإقليم لا بروتاني (La Bretagne) في شمال غرب فرنسا بالـ: Croissant aux abricots (الكرواسان بالمشمش).
في الجزائر، تناسلت الـ «كرواسان»، كما فعلت في غيرها من بقاع العالم، وخلفت ذرية كثيرة، بالإضافة إلى الـ: «كرواسان الوهراني». ونعرف من بينها اليوم، على الأقل، الـ «كرواسان» المحشو باللوز، والـ «كرواسان» المحشو بالـ: «كريمة» الشبيهة بـ «كريمة الـ: «ميلفوي»، بالإضافة إلى الـ «كرواسان» المتخم جوفها بالـ «كريمة» المشكلطة…
بالمناسبة، ألا يمكن أن يخفي هذا الاندماج السهل والسريع في نظام الطبيخ في بلادنا أسرارا تاريخية ما…؟ الأمر غير مستبعد…
بالنظر إلى العجينة المورقة التي تدخل في تركيبة هذه الكعكة، فضلا عن شكلها الموغل وجوده في القدم، والتي تعرفها الجزائر وتستخدمها في الطبخ ككل بلاد الإسلام منذ الحقبة الذهبية للحضارة الإسلامية، من الأندلس والمغرب الإسلامي حتى القاهرة وبغداد وما بعدها، هل الـ «كرواسان» «الفرنسية»، أو حتى النمساوية والإيطالية، هي فعلا كذلك وغريبة إلى هذا الحد عن تقاليد وعادات الطعام الجزائرية والإسلامية؟
هنا، يفاجئنا آلان ديفيدسون (Alan Davidson)، المؤرخ البريطاني المتخصص في تاريخ الأغذية، والدبلوماسي في الوقت ذاته، بالرد، حسب جيم شوفالييه، والعهدة على الراوي، بأن أقدم وصفة للـ «كرواسان»عثر عليها، وهي تعود إلى سنة 1905م، هي وصفة لـ: «كعكة شرقية باللوز المسحوق والسكر»…