أبرز الدكتور ورئيس مؤسسة الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس عبد العزيز فيلالي، أن سياسة الاحتلال الفرنسي العدائية والعنصرية القمعية التدميرية في الجزائر، قامت على التقتيل، التجهيل، التنصير والتجنيس الذي يشترط فيه التخلي عن الأحوال الشخصية والهوية الإسلامية، ووأد اللغة العربية، هدم المساجد والمدارس وتحويلها إلى كنائس وثكنات.
يؤكد الدكتور فيلالي في حديث لذاكرة «الشعب» بمناسبة ستينية الاستقلال، أن وضع التعليم قبل الاحتلال الفرنسي بمدينة قسنطينة كان قويا ومنهجيا ونسبة الأمية قليلة جدا، نظرا لما تمتلكه من مؤسسات تعليمية قدرت بـ90 مدرسة ابتدائية و7 معاهد عليا، 80 مسجدا و16 زاوية مقارنة مع العدد السكاني الضئيل، والذي كان يعادل 30 ألف نسمة فقط، وبالتالي كل الأطفال كانوا يتمدرسون بشكل نظامي.
ويشير إلى أن الأمية في مدينة قسنطينة كانت منعدمة حسب الكتاب الفرنسيين، لكن المحتلين تعمدوا إتلاف الصروح الثقافية والتعليمية، فبعد الكم الهائل من المدارس والمساجد والزوايا، والمرافق التربوية الأخرى، لم يبق منها إلا القليل النادر.
وشكل ذلك مشاكل تعليمية متعددة في الجزائر، ولم يتبق من المدارس العربية إلا الكتاتيب التي كانت تفتح بأمر من الإدارة الفرنسية، ولا يدرس فيها إلا حفظ القرآن الكريم للتلاميذ الصغار، أو بعض الزوايا التي تربي على إضعاف الهمة والقعود عن العمل، أو حتى بعض المساجد الخاضعة للسلطة الفرنسية لا يؤذن للتدريس فيها، لمن تريد وتمنع من تريد، يقوم بمهمة التدريس فيها شيوخ بعد رخصة الاحتلال، ويعلم فيها العلوم الشرعية فقط وبطريقة تقليدية.
ويضيف رئيس مؤسسة الشيخ عبد الحميد بن باديس، أن الاحتلال شجع على البعثات التنصيرية والتبشيرية وإقامة الكنائس، وأحرق المكتبات وأتلف المخطوطات، والكنوز العلمية والمعرفية للقضاء تماما على الذاكرة الوطنية وإتلافها، وطمس المعالم والأسماء العربية وتغيير جذري للهوية الإسلامية الجزائرية.
وأحل بدلها معالم وأسماء غريبة لا تمت بصلة للمجتمع الجزائري العربي الإسلامي، وسنت قانونا يتعلق بسلب القضاء الإسلامي من الفرد الجزائري وحرمانه منه كمرجعية فقهية إسلامية. وكانت الجزائر قبل الاحتلال من البلدان الأولى التي تعتني بالتعليم والمعرفة.
وانطلاقا من الوصف الاثنوغرافي للأمة الجزائرية، حاول التفريق بين مكوناتها بنشر كتابات تدعو إلى التفرقة بين العرب والأمازيغ، سعيا من الإدارة الاستعمارية لضرب الانسجام القائم بينهم والوحدة المتراصة في صفوفهم، ومع مرور السنوات أصبح الجهل في الجزائر جهلا عريضا وأمية منتشرة انتشارا شاملا، يقول فيلالي.
ويوضح محدثنا، أن الاستعمار لم يقتنع بهذه الإجراءات والأفعال، التي تعد جريمة ضد الإنسانية، بل ذهب لطمس لغتها والقيام عبثا بإدماج والعمل على تغيير اللغة العربية وحل محلها اللغة الفرنسية وثقافتها.
فصارت هذه الأخيرة هي اللغة الرسمية في الجزائر، لتصبح اللغة العربية «أجنبية» في عقر دارها ولا يسمح بتعليمها إلا بترخيص من الحاكم، وحاصر الاستعمار الفرنسي الثقافة العربية والإسلامية منذ أن وطئت أقدامه أرض الجزائر سنة 1830 ففرض الجهل والأمية والفقر على الأهالي.
طريق نشر الفكر التحرري
يؤكد الدكتور فيلالي، أن الوضع المتردي الذي طغى على الجزائر وتدهور الوضع الثقافي والتربوي لم يطل كثيرا، بعدما ثار المجتمع الجزائري وأخذ يتطلع إلى حضارته وتراثه ودينه ولغته، فانتقل من المقاومة المسلحة إلى المقاومة الثقافية والتعبير عن الذات الجزائرية، والعمل على إصلاح ما أفسده الاستعمار. فبإمكانات بسيطة تمثلت في مدارس، مساجد، زوايا وكتاتيب وبواسطة التربية والتعليم وتنوير العقول.
برز في النصف الثاني من القرن 19 الشيخ العالم عبد القادر المجاوي، الشيخ الإمام صالح بن مهنا، الشيخ عبد الحليم بن سماية، الشيخ حمدان لونيسي، الذين جاؤوا من المشرق العربي للقيام بمهمة واحدة وهي إصلاح الشأن التربوي والإصلاحي.
وكان لأفكار علماء المشرق آنذاك مكانة مسموعة ومقروءة لدى علماء الجزائر، تأتيهم عن طريق الجرائد والكتب القادمة من مصر، رسموا خريطة طريق لنهضة ثقافية وفكرية ودينية، وفي نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 فتحوا المجال لمن جاء بعدهم، وعلى رأسهم الإمام «عبد الحميد بن باديس» والشيخ البشير الإبراهيمي، الشيخ «الشريف الصائغي»، الشيخ «مبارك الميلي»، الشيخ «العربي التبسي».
وهو الجيل الثاني الذي حمل الإصلاح على أكتافه في النصف الأول من القرن 20، وكان لهؤلاء تلاميذ كثر كونوا جيشا من الطلاب، والتلاميذ يتحلون بأفكار الإصلاح.
مناهج تعزز الفكر الإصلاحي
ويبرز الدكتور فيلالي البيئة التي نشأ فيها الإمام عبد الحميد بن باديس، وترعرع وتربى بين جدران المساجد والزوايا، وأخذ معارفه من بعض شيوخها على رأسهم الشيخ «حمدان لونيسي»، والشيخ «محمد المداسي»، أين ركز في إصلاحه على الأمور التأسيسية الكبرى، وهي العقيدة والاعتقاد.
وأخذ يصحح ما أصابها من الشوائب والبدع عند الخاصة والعامة، والتي ظل نحو سبع وعشرين سنة يجاهد من أجل التوحيد، واستعمال العقل والبعد عن التقليد.
وكان يسلك في تدريسه ما يفيد الجزائريين، فكان يدرس لطلابه دروسا في التاريخ والجغرافيا قبل صلاة الفجر مرة في الأسبوع في الطابق العلوي من جامع سيدي لخضر، بعيدا عن أعين الإدارة الفرنسية، لأن المادتين محرم تدرسيهما للجزائريين، وكان يقول لتلاميذه «أنا أعلم أنكم شباب، وبحاجة للنوم، لكني اخترت هذا التوقيت لأنه الوقت الذي تنام فيه الشياطين».
وكان يسابق الزمن لأخذ العلوم والمعارف وتلقينها لطلبته والعمل على إخراج المستعمر من البلاد. ويضيف الدكتور، أن الإمام «عبد الحميد بن باديس»، كان يدرك أثر العلم والتعليم حتى ربى جيلا يؤمن بلغته ودينه ووطنه وتراثه، لاسيما وأنها أساسيات كادت أن تندثر ويقضي عليها الاستعمار بمنظومته التربوية وبسياسته التدميرية للهوية الجزائرية.
نخبة مثقفة حاربت التجهيل
قام الإمام بإعطاء النشء الجزائري قسطا من التعليم الديني والدنيوي واللغة العربية، والتعليم المهني أين كان يدرس أكثر من 13 مادة علمية للطلاب، لأنه كان مطلعا ليس فقط على العلوم الشرعية العقائدية، بل على علوم أخرى نفسية، اجتماعية، تاريخية، جغرافية، المنطق، الحساب والتربية وتدريس العقيدة، ويحث على بناء التعليم والفقه، خاصة وأن الاحتلال كان يستعمل كافة الوسائل والطرق والأفكار الهدامة لضرب الدين والعقيدة.
لهذا كرس الإمام جهده لمحاربة هذا الخطر من خلال مناهج تعليمية، وتغذية الطالب بالمعارف والتوعية بمقوماته ودينه، فاستطاع الإمام بهذه الطريقة مع إخوانه العلماء، أن يربي جيشا من التلاميذ والطلاب وإعدادهم لمواجهة التحديات الاستعمارية والطرقية والبدع في المستقبل.
حارب الإمام ابن باديس الجهل والأمية التي كرسها الاحتلال من خلال فتحه للمدارس، وتقديم الدروس والمحاضرات.
وكانت للأمام جهود متعددة في تأسيس الجمعيات المتنوعة، سواء منها العلمية، الدينية والثقافية، فساهم في إنشاء جمعيات كشفية وتأسيس جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين، جمعيات شبابية فنية ثقافية صنع منها نخبة مثقفة وطنية جزائرية.
وتمكنت جمعية العلماء المسلمين منذ نشأتها سنة 1931 من تأسيس المدارس، حتى بلغ عددها سنة 1935م نحو 70 مدرسة تعليمية في أنحاء الوطن الجزائري، تضم أكثر من 30 ألف تلميذ وتلميذة. وركز ابن باديس على تربية الطلاب والتلاميذ، أكثر من ملء أذهانهم بالعلم والمعرفة، بل سعى إلى التربية على هذا التعليم وبناء النفوس من جميع جوانبها.