أولت ثورة التحرير اهتماما كبيرا للجانب الشرطي، إدراكا منها بأهميته في إنجاح المسيرة التحريرية المظفرة، فتم منذ البداية تأسيس العديد من المصالح التي شكلت جهازا أمنيا أوكل له مهمة توفير الأمن والاستقرار في الجزائر، وتسيير المرحلة منذ وقف إطلاق النار في 19 مارس الى 5 جويلية 1962 يوم استرجاع السيادة الوطنية.
مسؤولية زادت وتنامت بعد الاستقلال، من أجل إثبات جاهزية وكفاءة منتسبيه في أداء المهام المنوطة بهم في أولى خطوات الجزائر الفتية على طريق البناء والتشييد، ليكون التخطيط المحكم والانضباط والصرامة في التسيير، التكوين والرسكلة، سلاح جهاز الأمن الوطني لنجاحه وثباته أمام تحديات.
كانت تزداد تعقيدا مع مرور السنوات فكان الصمود عنوان ستين سنة من التطور والتمكن منح رجال الشرطة الكفاءة، لمجابهة مختلف التحديات الأمنية ومسايرة أخطر أشكال الجرائم المستحدثة.
تاريخ الجهاز إبان الثورة وبعدها
أولى أثار ميلاد الشرطة تعود الى عام 1954 أين استحدثت شرطة الاستعلامات أو البحث عن المعلومة، عرفت آنذاك بشرطة الاستعلامات الثورية التي وضعت نظاما للتجسس الإعلامي ساهم فيه بعض الجزائريين، الذين كانوا يعملون في صفوف الشرطة الاستعمارية، كان من ضمنهم فئة النساء باعتبارهن كن أقل تعرضا للضغوطات والمتابعة من قبل المستعمر الفرنسي.
واستمر عمل التحري الى مراحل متقدمة من الثورة، واستحدثت عام 1956 اللجان الشعبية التي كان ظهورها قبل انعقاد مؤتمر الصومام، باسم لجان الحماية التي استمرت في النشاط الى غاية 2 جوان 1962.
ولم تتوقف النظرة الاستشرافية لقادة الثورة عند هذا الحد، وشرعوا بعدها في تحضير إطارات لجهاز الشرطة الجزائرية لمرحلة ما بعد الاستقلال بداية من عام 1958 بتكوين أربع دفعات من الضباط في كلية الشرطة بجمهورية مصر.
بلغ عدد الإطارات التي استفادت من التكوين، 40 إطارا من أبناء الجزائر على دفعات مابين سنوات 1958 و1962، وساهم هؤلاء المكونون برتبة ملازم في تأسيس جهاز الشرطة بعد الاستقلال، فكان لهم الفضل في قيادة المرحلة الأولى لميلاد المديرية العامة للأمن الوطني التي شهدت واقعا ميدانيا صعبا.
وعمل الجهاز في تسيير مرحلة وقف إطلاق النار من 19 مارس الى 5 جويلية 1962 من طرف عبد القادر حصار، مسؤول الأمن، الذي تم تكليفه من طرف جبهة التحرير الوطني، بتوظيف بعض العناصر المدنية في جبهة التحرير الوطني في جهاز الشرطة يكونون غير معروفين لدى مصالح الاستخبارات الفرنسية.
وقد تمكن عبد القادر حصار من فرض تنظيم محكم للمسبلين ليعين بعد الاستقلال رئيسا للديوان، وعين بدوره مجاد محمد أول مدير عام للأمن الوطني يوم 5 جويلية 1962 ليتم تسليم المهام بين الرجلين يوم 22 جويلية 1962 بمقرها السابق في الطابق الأرضي لقصر الحكومة، وبذلك ظهر الميلاد الرسمي للمديرية العامة للأمن الوطني.
مدرسة حسين داي الحاضنة
مباشرة بعد الإعلان الرسمي عن تأسيس جهاز الشرطة بعد الاستقلال، شرعت الدولة الجزائرية الفتية في رفع التحدي وتحقيق الأمن للمواطنين، عملت على تكوين إطارات جزائرية بالداخل والخارج لاسيما المجاهدين منهم، وأدمجت العناصر الجزائرية التي كانت تنشط ضمن أجهزة شرطة الدول الشقيقة في جهاز الأمن الوطني.
أنشأت أول مدرسة للشرطة بحسين داي بتاريخ 2 نوفمبر 1962، والتي استطاعت، بالرغم من نقص الإمكانات، تكوين مجموعة من الإطارات الجزائرية، ليليها إنشاء عدة مدارس أخرى في كل من تلمسان، الجزائر العاصمة، سيدي بلعباس وعنابة وقد بلغ تعداد عناصر الشرطة آنذاك حوالي 4 ألاف رجل مع بداية الاستقلال.
وابتداء من عام 1965 عرفت المديرية العامة للأمن الوطني التي اتخذت من ثكنة «بيليسي» بباب الوادي مقرا لها، مرحلة انتعاش، خاصة في شقها الإداري، وتمكنت من تسوية 11 ألف ملف للموظفين مع مصالح الوظيف العمومي، وإصدار أول بطاقة مهنية لجميع موظفي الشرطة وكذا حصولها على استقلاليتها المالية لتسيير أجور الموظفين.
إضافة الى إرساء إصلاحات عميقة ضرورية من أجل تسيير وتنمية وتنشيط كل الهيئات والمصالح التابعة للأمن الوطني، وتكييفها مع واقع المجتمع الجزائري والظروف المعيشية الجديدة في ظل الاستقلال.
أول زي رسمي في 1963
في أواخر عام 1963 اعتمدت المديرية العامة للأمن الوطني أول زي رسمي لها، فالزي الرسمي للشرطة الجزائرية في سنتها الأولى بعد الاستقلال كان غير موحد، فقد كان مختلطا بين لباس الشرطة الفرنسية المتروك بمقرات الشرطة ولباس جيش التحرير الوطني.
ليعرف الجهاز بعدها وبالضبط في عام 1966 ظهور الزي الرسمي الثاني للشرطة الجزائرية الذي اعتمدته الى غاية 1976، ليحل محله الزي الرسمي الثالث الذي استمر الى غاية سنة 1986.
وقامت المديرية العامة للأمن الوطني، بتغيير الشارة الخاصة بالقبعة بعد أن أطلقت مسابقة داخلية لأحسن تصميم لها عام 1968، تحصل فيها على المرتبة الأولى محافظ الشرطة «لاراك علي»، واعتماد تصميمه لشارة القبعة شعارا للشرطة الجزائرية الى يومنا هذا.
في هذه المرحلة أيضا، صدرت مجموعة المراسيم التنظيمية، على غرار قانون خاص بسلك الأمن الوطني وفق نص المرسوم رقم 216-68 المؤرخ في 30 ماي 1968 المحدد للأحكام المشتركة الخاصة، المطبقة على موظفي الأمن الوطني التابعين لمختلف الأسلاك.
شهدت المديرية العامة للأمن الوطني، إعادة في الهياكل خلال سنة 1971 نص عليها المرسوم رقم 150-71 المؤرخ في 03-06-1971 مست كل مستويات المديرية العامة للأمن، المركزي الجهوي والولائي.
ودائما في سياق تطوير الجهاز، أنشأت المديرية العامة مصلحة الإعلام الآلي لتعميم هذه التكنولوجيات على جميع المصالح، وفتحت المجال للمرأة الجزائرية للولوج الى جهاز الأمن الوطني، ابتداء من عام 1973 بالتحاق أول دفعة لمفتشات الشرطة بالمدرسة العليا للشرطة.
وأنشأت مدرسة أشبال الشرطة بالصومعة التي استمرت في تكوين الإطارات والرتباء من عام 1974 الى غاية 1988.
في أواخر عام 1988 شهدت البلاد تغيرات سياسية عميقة، مما استدعى تأقلم الشرطة مع الوضع الجديد، لاسيما بعد صدور دستور فيفري 1989، إذ استوجب تجديد أساليب العمل وتوفير التعداد البشري والعتاد والعدة والتركيبة الهيكلية للمديرية، التي كان من الضروري تغييرها تماشيا مع الوضع المستجد.
وفي هذا السياق، صدر القانون الأساسي الخاص بموظفي الأمن الوطني في المرسوم التنفيذي رقم 524/91 الصادر بتاريخ 25 ديسمبر 1991 والذي تضمن كل الجوانب الخاصة بجهاز الأمن الوطني آنذاك.
كل الجهود لخدمة الوطن
على الرغم من الظروف الأمنية التي عاشتها البلاد، فإن جهاز الأمن الوطني وعلى غرار أسلاك الأمن الأخرى رفع التحدي، وحشد كل الجهود لخدمة الوطن والمواطن مع فتح عدة مقرات للشرطة، وتجهيز قواتها بالعتاد العصري لمسايرة ومكافحة كل أشكال الجريمة والإرهاب بشكل خاص.
ومع استعادة البلاد استقرارها الأمني، الذي أدت الشرطة الجزائرية دورا كبيرا في استتبابه، واصلت المديرية العامة تطورها، من أجل تقديم خدمة أمنية نوعية للمواطن، ورسمت سياسة جديدة الغاية منها القيام بإصلاحات عميقة، تهدف الى رفع مستوى الأداء المهني للجهاز.
تحكم في أداء المهام
استطاع بعدها جهاز الشرطة وبفضل الدعم الذي تلقاه من طرف الدولة في الدفع بعجلة التطور والاحترافية إلى درجات عليا، وأثبت بعد 60 سنة من الاستقلال سيطرة في أداء المهام الأساسية للشرطة، التي لم يكن لها أن تحقق دون الدعم اللوجستي الهام الذي حظيت به.
وزودت بمختلف العتاد والتجهيزات الضرورية لتأدية المهام على أكمل وجه، ما أكسب الجهاز سمعة عالية في المحافل الدولية، وأضحت خبرته مطلوبة وتجربته مرجعا.
فقد خطت الشرطة الجزائرية بعد الاستقلال خطوات عملاقة، حققت من خلالها العديد من المكتسبات بفضل التخطيط المحكم، والانضباط والصرامة في التسيير والاعتماد على التكوين والرسكلة، وإدراج برامج خاصة بمحاربة أشكال الجرائم على اختلافها ودرجة خطورتها، معتمدة في ذلك على الدعم اللوجيستي، وتثمين الموارد البشرية التي تم إعطاؤها أهمية بالغة، سمحت بتبوإ مكانة عالية في المحافل الدولية.
ولعل من بين أهم النقاط التي تم التركيز عليها خلال فترة الاستقلال هي عصرنة الجهاز، ورسكلة العنصر البشري، وتدعيم القطاع بمختلف اللوازم الخاصة بالمصالح العملياتية التي تدعمت بإمكانات جد متطورة في مجال الكشف عن المتفجرات، وأجهزة التعرف على السيارات المسروقة والأشخاص المبحوث عنهم، وغيرها من الوسائل التي سمحت لرجل الأمن من أداء مهامه الشرطية على أكمل وجه.
وحقق الجهاز على مدار 60 سنة قفزة نوعية جعلها تتبوأ مرتبة ريادية عالميا، بعدما شغل رجالها مناصب هامة في كبريات المنظمات الدولية، واحتضان الجزائر لأكبر الملتقيات الأمنية الرامية إلى محاربة الجريمة العابرة للأوطان، فكانت الجزائر صرحا لاحتضان، وتجسيد مشروع المنظمة الإفريقية للشرطة «أفريبول» فقد كانت السباقة في المساهمة في إنشائه.
حركية وطنية ودولية ترجمت التطور الكبير لهذا الجهاز على مدار 60 سنة من الاستقلال، حرص من خلاله على مواكبة آخر التقنيات العلمية والتكنولوجية الحديثة، وفق ما تتطلبه المستجدات الراهنة وذلك كله بفضل التسيير الراشد والحكيم لقيادتها العليا، وتضحيات رجالها وتفانيهم وحبهم للوطن.
نتائج ميدانية تحققت
وكان جهاز الشرطة قد تلقى في العديد من المناسبات إشادة واعترافا دوليين بفضل النتائج الميدانية المحققة وما استحدثه من وسائل تكنولوجية وعلمية رائدة في العمل الأمني التي سمحت له بمواكبة طفرة التقدم والتطور الذي تعرفه شتى مصالح الأمن على الصعيد الدولي إمكانية بشرية ومادية هامة سمحت له من تبوإ مكانة عالية في المحافل الدولية.
وصنفت الجزائر من طرف الانتربول في المراتب الأولى عالميا، وهو تأكيد على المكانة التي باتت تحظى بها الشرطة الجزائرية دوليا، خاصة وأنه بات يعتمد على رؤيتها وخبرتها في مكافحة الجريمة والإرهاب.
لم يتوان جهاز الشرطة في أداء التزاماته تجاه وطن، أقسم كل واحد من منتسبيه أنه لن يدخر جهدا لإتمامه على أكمل وجه حتى وأن أخذ روحه، لان الجزائر هي فقط المقصد والمطلب والمنتهى.