تروي فاطمة بوشطاطة، أول ممرضة بمدينة عين الصفراء إبان الاستعمار الفرنسي، أنّ الجيش الفرنسي فوجئ بخروج المرأة الجزائرية، من مختلف الأعمار للاحتفال بيوم الاستقلال في الخامس جويلية 1962، وهي التي كان لا يظهر لها أثر طيلة وجود الاحتلال بالمنطقة بل كان خروجها منعدما ونادرا ما تظهر امرأة رفقة رجل، بل حتى الفتيات لم تكن يخرجن للشارع إلا نادرا.
فاطمة بوشطاطة أو السيدة شيخاوي من مواليد 09 /11 / 1941، أرملة وزوجة مجاهد، وأم لثلاثة أطفال، تعد أول امرأة جزائرية في منطقة عين الصفراء تمتهن التمريض إبان الاستعمار الفرنسي رفقة أربع جزائريات أخريات، ساهمن بشكل كبير في علاج المجاهدين والجرحى أثناء ثورة التحرير المجيدة.
كانت تخرج الأدوية من المستشفى رفقة زميلاتها الأربعة وتسلّمها للمجاهدين، تروي من خلال حوار لـ «الشعب» ذكرياتها مع نشوة استرجاع السيادة الوطنية، وكيف كانت النعامة بعد الاستقلال وكيف أصبحت بعد 60 سنة.
متى اقتحمت مهنة التمريض؟ وأين تكوّنت؟
الحاجة فاطمة بوشطاطة: التحقت بالمستشفى سنة 1959 كممرضة، تعلّمت هذه المهنة من خلال العمل النظري، لم أدرس التمريض وكنا 5 ممرضات جزائريات من عين الصفراء، درسنا في مدرسة الآباء البيض، وبعدها توجهنا للعمل بالمستشفى صدفة، لأنّه ممنوع آنذاك على المرأة الخروج للشارع أو للعمل، وأن المستشفى لم يكن يتوفر على ممرضين، كنا نحن الجزائريات فقط مع الأطباء الأجانب.
ما هي المهام التي أوكلت لك في الثّورة؟
كانت لنا اتصالات مع المجاهدين، كانوا يأتون إلينا من أجل العلاج ومن خلال فحصهم يخبروننا أنهم مجاهدين، وسيعودون خلال مدة معينة بحجة أخذ حقنة أو من أجل العلاج، وعليه يجب تزويدهم بكمية من الأدوية، ووسائل الإسعافات الأولية خاصة أقراص الأسبيرين، المصل، ضمادات، الكحول..إلخ.
هذه اللوازم الطبية كان يكثر عليها الطلب، وكنا نرسلها للجبال عن طريق بعض المسبلين منهم بن شريف، ريمامدا، ناير، كنا متفقين على الالتقاء بمكان خاص مع هؤلاء المسبلين الذين كانوا يأتون متخفيين بلباس نسوي «الحايك «، ونسلمهم كميات الأدوية، و»الحايك» كان له دور كبير خلال الثورة، كان سترة لنا جسديا ونضاليا.
كنا نخرج الأدوية من المستشفى ونخفيها تحت «الحايك» خاصة، وكنا نحمل بطاقات مهنية تسمح لنا بالخروج، خلال حظر التجوال الذي كان يبدأ على الساعة الخامسة أو السادسة، وكانت لنا علاقة «ودية» مع بعض الجنود الفرنسيين بالمستشفى.
وكان أحدهم يأتينا للمنزل، ويحدثنا عن الفلاقة والمعارك التي وقعت أو التي ستقع والمناطق التي سيتم تمشيطها أو القيام بعمليات تفتيش أو نشاط عسكري، وكنا نحن نبلغ المعلومات الى جيش التحرير الوطني أثناء تسليمهم الأدوية.
كيف كان يمكن الإفلات من مراقبة الشرطة الفرنسية؟
في المستشفى كنّا نتحدث معهم باللغة الفرنسية بطلاقة، كانوا يعتبروننا منهم وانه لا علاقة لنا بالثورة، كنا اثنتان فقط لهما علاقة مع المجاهدين أنا وصديقتي اسمها قادري زوبيدة متواجدة الآن بولاية تيارت والممرضات الثلاث الأخريات، لم نكن نخبرهن عن نشاطنا خوفا من انتشار الخبر، خاصة وأن المستشفى يتواجد به الجيش الفرنسي بكثرة.
وفي إحدى المرات، حاولت جبهة التحرير الوطني أن تأخذنا لعلاج المجاهدين في الجبال، ولكن كان هناك أحد كبار المنطقة اسمه حماني علا، رفض بشدة إلتحاقنا بالجبال، وأكد لهم أننا ننفعهم هنا في المدينة أكثر من الجبال، وقال «هن يساعدن السكان والمجاهدين خاصة من ناحية توفير الأدوية»، وأتذكر انه في احدى الاحتفالات التي نظمت من طرف الفرنسيين طلبوا منا نزع «الحايك».
وبعد رفضنا هدّدونا بالسجن، فبقينا ثلاثة أيام ننتظر متى يتم اقتحام بيوتنا لسجننا، لكن الحمد لله في الأخير لم يطبق هذا القرار، وعشية الاستقلال بأيام قليلة اقتحم الجيش الفرنسي منزلنا وتم سجن اخوين لي.
ولكن في اليوم الموالي ذهبت للعمل رفقة صديقتي وكأن شيئا لم يحدث، بالرغم من أن كل الأنظار كانت متجهة نحوي، غير أن عدم اهتمامي جعل المستعمر يرتاح من ناحيتي وبددت شكوكه تجاهي.
كيف كان وقع خبر استقلال الجزائر؟ وكيف عشتم هذه المرحلة؟
في يوم الرابع جويلية جاءت تعليمات بالتحضير لهذه الاحتفالات، فأخطت الأعلام الوطنية والرايات واللافتات، وليكن في علمك أن المرأة مهما كان سنها كانت في ذلك الوقت ممنوعة من الخروج في منطقة عين الصفراء، حتى الفتيات صغيرات السن لا يخرجن إلا نادرا وللضرورة القصوى، وبلباس محتشم جدا.
ولكن في يوم الإستقلال، جاءت أوامر من المجاهدين بخروج كل السكان للاحتفال باسترجاع السيادة الوطنية رجالا ونساء كبارا وصغارا، فخرجنا في فرحة عارمة نحتفل من طلوع الشمس الى وقت متأخر من الليل حاملين الأعلام والرايات الوطنية وبهتافات وطنية أهمها: «تحيا الجزائر» بالزغاريد، ومزامير السيارات والشاحنات المتواجدة والدراجات، في مسيرة كبرى جابت كل شوارع المدينة.
أوقات لا أستطيع أن أنساها ولا أستطيع أن أتصور فرحة الاستقلال في ذلك اليوم، بعد خروج السجناء وأول ليلة عشناها دون خوف دون حظر تجول، عشنا فرحة أخرى وهي فرحة عودة المجاهدين الى اسرهم وعائلاتهم في المدينة، وكانت المسيرة هذه المرة عبر قطار نقل البضائع قطار بلون أسود امتلأ عن آخره.
المرأة الجزائريـة فاجأت الجيش الفرنسي
وكيف تعامل جيش الاحتلال الفرنسي معكم؟ ومع تلك الفرحة والهتافات؟
الجيش الفرنسي لم يظهر نهائيا في هذا اليوم، صدم وفوجئ بخروج المرأة الجزائرية الى الشارع، ولأول مرة منذ أن وطأت اقدامه النجسة هذه الأرض الطيبة، وأن تحمل راية الجزائر وتسير وسط الرجال وترفع صوتها، وهي المعروفة بتقاليد وذهنيات أهل المنطقة بأن المرأة ممنوعة من الخروج.
كيف كانت وضعية منطقة النعامة اجتماعيا؟
كانت النعامة تابعة لولاية سعيدة، وكانت منطقة بدوية بها مدينتين فقط كبيرتين هما عين الصفراء ومشرية، وباقي البلديات الجنوبية كانت عبارة عن قصور، والبلديات الأخرى عبارة عن تجمعات سكانية صغيرة جدا، غير أن الحركة والتغيير كان مع بداية الاستقلال.
بالنسبة للوضعية المعيشية، كان سكان المدن يعتمدون على الفلاحة فقط أو بعض الدكاكين التي تعد على الأصابع فقط، وأهل البادية مهنتهم الرعي وتربية الماشية والوضعية الاجتماعية للسكان كانت ضعيفة جدا، لا يوحد دخل، بالإضافة إلى الفقر الذي تركه الإستعمار.
ومع ذلك، ساهم المواطنون في البناء من أجل هدف واحد وهو حب الوطن، وساهمت الطبقة المثقفة في العمل الإداري خاصة بالبلديات، وأملاك الدولة خاصة بعد تعيين مندوبيات لتسيير البلديات مؤقتا.
كان علا عبد الرحمان أول مندوب لتسيير بلدية عين الصفراء، ثم خلفه أيت سالم مبارك وهو من منطقة القبائل، وبعدها حمو عبد الجبار الذي لا يزال على قيد الحياة، الى غاية أول انتخابات بلدية سنة 1967 أين انتخب الحاج محمد بن سالم، وبعدها بدأت التنمية بهذه البلديات خاصة البلديات الكبرى.
مع استرجاع السيادة الوطنية كانت في عين الصفراء مدرستان فقط، ومع بداية السبعينيات بدأت ثمار مرحلة البناء خاصة في مجالات التربية والصحة، انطلقت عجلة التنمية الحقيقية، وتضاعفت وتيرتها مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات.
ومن الناحية الاقتصادية، بدأت الأوضاع تتغير مع الثورة الزراعية التي جاء بها الرئيس الراحل هواري بومدين، خاصة في الجانب الفلاحي.
60 سنة من الاستقلال، ماذا تغيّر في ولاية النعامة؟
هناك تغيّر كبير عرفته النعامة بكل نواحيها خلال هذه المرحلة، كانت منطقة بدوية فأصبحت ولاية حضرية، كانت التنمية منعدمة، غياب المرافق العمومية، الجهل، الفقر، واليوم الحمد لله قطعت الجزائر أشواطا كبيرة في البناء والتشييد، لا يمكن اليوم غض البصر عما قامت به الدولة تجاه شعبها، ولا ينكر هذه المجهودات إلا جاحد، خصّصت مشاريع كبرى في مختلف القطاعات وفتحت مناصب العمل وفتح المتاجر…إلخ.
أتذكر أنه إبان الإحتلال الفرنسي، لم يكن هناك أي رجل يعمل بالمستشفى باستثناء نحن الممرضات الخمس، وبعد الاستقلال مباشرة تم توظيف الشباب، خاصة بعد عودة المجاهدين، والتحق بنا سبع مجاهدين عملوا كممرّضين، وبقية العمال الآخرين، وهو ما حز في نفسي كثيرا توظيفهم كعمال نظافة للمستشفى، بالرغم من تضحياتهم لتحرير هذا الوطن فأين قيمة المجاهد؟ عيب مجاهد ينزل من الجبل ويقوم بتنظيف المستشفى مثلما تنظف المرأة؟
كلمة توجهينها لسكان الولاية وإلى كل الجزائريين بمناسبة ستينية استرجاع السّيادة الوطنية؟
الجزائر أمانة في أعناقكم، حافظوا عليها، الاستقلال لم يمنح لنا هدية، ولم يأت من العدم، آباؤنا ضحوا من أجل هذه اللحظة، وهي نعمة الحرية والأمن والاستقرار، على الشباب حمل المشعل، وعين الصفراء يجب أن يحافظ عليها أبناؤها، فهي غالية وعالية كثيرا، عاشت كل المحن، نحن عشنا الويل وقت الاستعمار، لم يكن لنا الحق في عطلة نهاية الأسبوع أو العطلة التعويضية.
كنا نعمل في النهار وفي الليل، ننام بالمستشفى أنا وزوجي، ونقوم بالمناوبة الليلية في حالة وقوع حادث في الليل، لذلك على كل الجزائريين وضع اليد في اليد، والله يحفظ وطننا ومسؤولينا وجيشنا.