عقدت اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ والذاكرة، نهاية الأسبوع الماضي، اجتماعها الأول عن طريق التقنية عن بعد، قدم خلاله الجانب الجزائري ورقة عمل وفق المبادئ الأساسية الواردة في “بيان الجزائر”، الموقع بين رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون ونظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وبيان اللجنة الحكومية المشتركة رفيعة المستوى المنعقدة بالجزائر يومي 9 و10 أكتوبر 2022، بحسب ما أورد بيان لرئاسة الجمهورية.
جمال الدين بوراس
وقد تم الاتفاق على معالجة جميع القضايا المتعلقة بالفترة الاستعمارية والمقاومة وحرب التحرير المجيدة، كما اتفق على مواصلة التشاور والاتصالات من أجل وضع برنامج عمل مستقبلي مع تحديد الاجتماعات القادمة للجنة المشتركة.
وفي هذا الصدد، يؤكد المؤرخ، الدكتور عامر رخيلة، أن اجتماع اللجنة المشتركة يقتضي من الشريكين تقديم ورقة عمل تتضمن رؤية كل طرف لطريقة العمل والأولويات التي يرى هذا الطرف أو ذاك ضرورة اعتمادها، من حيث الملفات ذات الأولوية ومنهجية عمل اللجنة، وسيكون من المحبذ هنا تمسك الطرف الجزائري بوجوب وضع رزنامة للعمل المشترك للجنة، تفادياً للمماطلة المعهودة من الطرف الفرنسي، يضيف المتحدث.
ويرى رخيلة في التئام شمل اللجنة بعد شهور من تشكيلها، خطوة إيجابية من شأنها أن تؤكد صدق النوايا وحرص الطرفين على تجسيد التزامات الطرف الفرنسي، التي ما فتئ الرئيس الفرنسي، يؤكد بمقتضاها على الإرادة السياسية لبلاده في اتخاذ خطوات جدية، تعزيزاً للعلاقات الثنائية، وهذا بإزالة معوقات الإرث الاستعماري وانعكاساته على العلاقات الثنائية.
ويضيف المؤرخ أن تشكيل وانعقاد أول اجتماع للجنة المشتركة، يعد فرصة تاريخية للبلدين، لاسيما بالنسبة للجزائر التي ستحتفل بالذكرى الواحدة والستين، لاسترجاع سيادتها، بعد تضحيات جسام، ومازال شعبها يعاني من مخلفات العنف المادي والإداري، والذي حصرته السلطات الجزائر فيما يعرف بملف الذاكرة، الذي يتمثل في جملة من الملفات والمطالب التي من ضمنها، ملف التفجيرات النووية ومخلفاتها، وهي جريمة لا تزول بالتقادم، بحيث لم ينج منها لا الزرع ولا الضرع، بعد مرور 63 سنة عن أولى التفجيرات، وعديدة هي الأمراض الناجمة عنها والتي مازالت تسجل في العديد من المناطق الجنوبية، فعلاوة على ولادة أطفال مشوهين، يضافون سنوياً لضحايا التفجيرات التي كانت وتظل جريمة مستمرة ذات آثار صحية وبيئية وخيمة، وعليه فلا بد على الطرف الجزائري أن يتمسك بحق الجزائر في الحصول على خرائط الخنادق والوديان التي ردمت فيها مخلفات التفجيرات والوسائل المادية التي مازالت مكسوة بالأشعة النووية، ولابد من افتكاك التزام من الطرف الفرنسي، بوجوب القيام بما يجب القيام به، لإزالة الآثار الناجمة عن التفجيرات النووية ومخلفاتها باطنياً وسطحياً وتعويض الضحايا تعويضاً عادلاً.
من جهة أخرى، يوضح الدكتور رخيلة أنه لابد على الطرفين أيضا معالجة ملف الأرشيف، بالاتفاق على حقيقة أن أرشيف الفترة الممتدة بين 1830- 1962 مشترك ويخص الطرفين، وعلى الجانب الفرنسي الكف عن التلويح بفكرة أن فتح العلبة الأرشيفية سيفاجئ الجزائريين، وهو تبرير غير مقبول لا أخلاقياً ولا سياسياً، فالشعب الجزائري –يؤكد المتحدث- ليس بالقاصر، حتى يتقبل هذا المنطق الفرنسي الممزوج بشيء من الوصاية المرفوضة رفضا باتاً من الجزائر السيدة، فالجزائر التي تمكنت من تضميد جراحها بعد الاستقلال في 1962، وتمكنت من تجاوز مشكل الحركى الذين تجاوز تعدادهم 300 ألف، لم يحدث فيها ما حدث سنة 1945 إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، في قلب العاصمة باريس من تنكيل بالنساء والرجال المؤيدين لحكومة فيشي آنذاك.
أما بخصوص ملف الحركى، فيوضح الدكتور عامر رخيلة، أنه لابد من التأكيد على أن الجزائر في نصوصها القانونية، لم تحرم أولئك الذين اختاروا البقاء في الجزائر من الحق في النشاط لكسب قوتهم وقوت عيالهم، ولم تسلك سياسة تمييزية مع أطفالهم، تربيةً وتعليماً وتوظيفاً، والجزائر لا تعد مسؤولة أو معنية بالحركى الذين اختاروا بإرادتهم مغادرة الجزائر، وعليه، فإن ملفهم فرنسي محض، وعلى السلطات الفرنسية أن تكف عن التلويح به كلما أثار الطرف الجزائري ملف الذاكرة.أما بخصوص ملف المفقودين، فمازالت نهاية عدد هائل منهم مجهولة، بسبب اختطافهم من طرف المصالح الاستعمارية الفرنسية خلال سنوات الثورة التحريرية، ولم يظهر لهم أثر منذ ذلك الحين، وقد وردت أسماء العديد منهم في تصريحات لبعض المصالح الفرنسية مؤكدة واقعة الاختطاف، أو تم تسجيلهم في تعداد المفقودين، وهو ملف حان وقت إضفاء الشفافية عليه. يضاف إليه ملف التعذيب، فعلى السلطات الفرنسية –يؤكد المؤرخ رخيلة- الإقرار بالانزلاقات التي طبعت سلوك مصالح الجيش الفرنسي الاستعماري والشرطة وقوات الدرك وغيرها من القوات الاستعمارية التي تفننت في تسليط أقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي على المدنيين الجزائريين والفدائيين والأسرى من جيش التحرير الوطني، الذين سلطت عليهم مصالح التحقيق الابتدائي، ليس في مقرات العدالة، بل في بيوت وأقبية مقرات مصالح الأمن الاستعماري، أعدت خصيصا لذلك الشأن، ولم يستثن من هذه الأفعال الشنيعة، لا الأطفال ولا النساء الذين ذاقوا أبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي، وقد ظلت آثاره ظاهرة على من كتبت له الحياة، فلم تعر تلك المصالح الإجرامية أي اعتبار لحق الإنسان في السلامة الجسدية والكرامة الآدمية.
من جهته، يرى الدكتور عبد الرحمن بن شريط، أستاذ الفلسفة السياسية، أن الجزائر حريصة على مباشرة اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ والذاكرة لعملها، والتطرق لمختلف الملفات الحساسة، والتي تبدأ أساساً باعتراف فرنسا بمجازرها في الجزائر وإقرار تعويضات للضحايا، إضافة إلى ملف التفجيرات النووية وغيرها من القضايا الأخرى التي تشكل مجتمعة ملف الذاكرة، الذي مازال يتفاعل في فرنسا، خاصة مع صعود بعض السياسيين المتطرفين، على شاكلة النائب في البرلمان الفرنسي “خوسيه غونزاليس” الذي عبر في الفترة الأخيرة عن أفكار تدل على حنينه لـ “الفردوس المفقود”، وأمثاله كثر، أولئك الذين يرددون في كل مرة عبارات مستفزة، يراد من خلالها تعكير الأجواء، والتشويش على مسعى فتح ملف الذاكرة، والمعلوم –يؤكد الدكتور بن شريط- أن هناك العديد من الفرنسيين الذين لا يريدون لهذه اللجنة أن تلتئم والقيام بعملها، وعليه فعقدها لاجتماعها الأول في هذه الفترة التي تسبق زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى فرنسا، يراد من خلاله التعبير من الطرف الجزائري، على حقيقة أن ملف الذاكرة سيبقى الملف الجوهري والأساسي لأي مباحثات مستقبلية أو أي سياسات تقارب بين البلدين، في انتظار موقف إيجابي من الجانب الفرنسي، يخدم مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية الذي تبقى مرتبطة بالماضي وبالذاكرة.
وفي سياق متصل، يفيد الدكتور بن شريط، أن الطرف الفرنسي بظروفه السياسية والاقتصادية الحالية، ليس في وضعية تسمح له بخلق صعوبات إضافية أمام إمكانية تحسين العلاقات بين الجزائر وفرنسا، خاصة مع تراجع شعبية الرئيس الفرنسي، الذي سيعمل على عدم تضييع فرصة زيارة الرئيس تبون إلى فرنسا شهر جوان القادم، بهدف إعادة بعث العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين.