يجمع العديد من المؤرخين والباحثين في التاريخ على أهمية البعد التحرري في بيان أول نوفمبر، الذي جاء بعد مرحلة نضال وكفاح طويلة إلا أنه كان مؤمنا بأن النصر محقق، بفضل ثلة من المناضلين المخلصين.
جاء بعد نضال طويل في ظل الحركة الوطنية
اعتبرت الدكتورة ليلى بلقاسم، أستاذة التاريخ بجامعة مستغانم، أن بيان أول نوفمير يعد ميلادا للفكر التحريري الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وضعت خطوطه العريضة في اجتماع 10 أكتوبر 1954 من طرف ثلة من المناضلين فكان خلاصة لقاءات ومحصلة أفكار جاءت بعد مرحلة نضال طويلة في ظل الحركة الوطنية، وهذا بعد مخاض عسير انصهرت بداخله كل تيارات الحركة الوطنية.
وأضافت الدكتورة بلقاسم، أن بيان أول نوفمبر 1954 دعا إلى استيعاب كل الفئات الاجتماعية في ظل المشروع التحريري دون أدنى اعتبار آخر، من أجل تحرير الأرض والإنسان الجزائري من استعمار استيطاني مارس عليه كل أشكال القمع والاقتلاع من أرضه ومقوماته، والعمل على فرز هويته عن بقية الهويات الاستيطانية وتوحيد صفوفه بعنوان سياسي جديد اسمه “جبهة التحرير الوطني”، بإعادة القضية إليه باعتباره السند والحاضنة الرئيسة للعمل التحريري، وهذا ما أكدته عبارة “أيها الشعب أيها المناضلون من أجل القضية الوطنية …” وهذا ما يدل على مرحلة النضج التي بلغته الحركة الوطنية في وقت انتشرت فيه حركات التحرر في كل من آسيا وإفريقيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فالتخلف عنها هو تخلف عن موعد مع التاريخ، قالت الباحثة.
وأشارت:” هذا ما صرح به محمد بوضياف، لجريدة لومند (Le Monde) في نوفمبر 1962: “لم يكن هناك شيء واضح ما عدا الاستقلال الوطني والإرادة في إشراك الجماهير العريضة في الثورة المسلحة”، فبيان أوَّل نوفمبر كان موجها ضد الاستعمار الفرنسي باعتباره العدو الوحيد والأعمى الذي رفض أمام وسائل الكفاح السلمية أن يمنح أدنى حرية، وعلى هذا الأساس اضطر محررو البيان أن يُحْيوا المطالب التحريرية بانتهاج الأسلوب الثوري من أجل استرجاع السيادة الوطنية المسلوبة منذ 1830 وبناء دولة ديمقراطية،أضافت محدثتنا.
في هذا الصدد أوضحت، أن العمل التحريري كانت غايته الاستقلال ولا يكون ذلك إلا بالقضاء على النظام الكولونيالي المتحالف مع الامبريالية وفق وسائل حددها البيان في عبارة: “انسجاما مع المبادئ الثورية، واعتبارا للأوضاع الداخلية والخارجية، فإننا سنواصل الكفاح بجميع الوسائل حتى تحقيق هدفنا، …وحقيقة أنّ الكفاح سيكون طويلاً ولكن النصر محقق.”
فالفكر التحريري في بيان الفاتح من نوفمبر-قالت استاذة التاريخ- لم يقتصر على الجزائر بل تعداه إلى البعد المغاربي في إطار الوحدة لمواجهة العدو المشترك، بدليل أنّه من أسباب التعجيل بالعمل المسلح هو انطلاق الثورة في دول الجوار، مما سيعجل بطرد المستعمر الفرنسي من منطقة الشمال الإفريقي لتصفية النظام الاستعماري. لهذا لم تدخر الثورة الجزائرية وسعا لدفع عجلة التضامن المغاربي فلم تكتف بالشعارات السياسية والبيانات بل جسدت ذلك على الواقع من خلال هجومات الشمال القسنطيني 20 أوت 1955 .
وأضافت:” ليكرس بيان أول نوفمبر الفكر التحريري برفض كل أشكال التبعية، التي كان الاستعمار الفرنسي يطمح إليها من ذلك المشاركة في ما يسمى باتحاد فيدرالية أو مجموعة مثلما هو الحال بالنسبة للمجموعة الفرنسية الإفريقية، بل أكد أنّه لا يقبل بالحلول الجزئية أو نصف الحلول التي تمس بالسيادة والوحدة الإقليمية، بل المطالبة بالتحرر الوطني الشامل والكامل تاريخيا واجتماعيا وجغرافيا وحضاريا “دولة ذات سيادة” والمغيبة تاريخيا والتي كانت قائمة بمؤسساتها قبل 1830 وبالسيادة التي يجب أن تمارس من طرف أصحابها الأصليين ممثلة في الشعب الجزائري”.
البعد التحرري في بيان أول نوفمبر
يعد بيان أول نوفمبر وثيقة تاريخية وسيادية للجزائريين لما تضمنته من مبادئ وأهداف تحررية محلية وإقليمية، وعن البعد التحرري في نص البيان فإن ذلك نلمسه في أكثر من موضع من نصوص هذا الميثاق، أولا: نجد أن معدو البيان أطلقوا مسمى جبهة التحرير الوطني، في احتواء لمختلف وسائل النضال لما في ذلك من رؤية بعيدة وعميقة للأحداث وفي علاقتها مع المستعمر.
وهي رسالة واضحة إلى أن التحرير واسترجاع السيادة هو الهدف والغاية الأسمى من الكفاح، ثانيا نجد في مقدمة البيان إشارة إلى العمل في الإطار المغاربي وعن تأخر الجزائر في هذا المسعى عن دول الجوار على الرغم من أن الكفاح السلمي لم يتوقف مذ وطأت اقدام المستعمر ارض الجزائر، وأن اللجوء إلى الكفاح المسلح ضرورة وحتمية أكثر منه خيارا، مع أن هذا الخيار لا يعني إلغاء النضال السياسي التحرري وأن يد جبهة التحرير ممدودة من أجل تحقيق هذه الغاية بما يضمن سيادة الجزائريين وتقرير مصيرهم.
ثالثا: تضمن البيان رؤية تحررية ذات افق أوسع في الزمان والمكان تتجاوز حدود الجزائر إلى الشمال الإفريقي والبلاد المغاربية”…وجهة نظرنا الأساسية التي دفعتنا إلى الاستقلال الوطني في إطار الشمال الإفريقي” ولعلّ ما سيؤكد هذا المنحى هو تواجد جبهة التحرير في مختلف المحطات التاريخية المغاربية من مؤتمر طنجة، إلى احتضان البلدان المغاربية لجيش الحدود وللحكومة الجزائرية المؤقتة.
رابعاً: نجد أن مبادئ البيان التحررية غابت عنه الطروحات الأيديولوجية والتوجهات الفكرية إلى ضرورة تجاوزها في سبيل تحقيق الغاية الوطنية، فكان الانضمام متاحا للجميع دون أدنى اعتبار للانتماء الفكري أو السياسي، والبيان لم يستثن حتى الجاليات والمستوطنين بغض النظر عن أصولهم ومعتقداتهم، وهو ما يتجسد في مبدأ احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني وأن هدف القضية هو محاربة سياسات الاستعمار وليس كفاحا موجها ضد شعوب أو أفراد وكان لذلك رد فعل واسع أكسب الثورة أنصارا ومتعاطفين حتى في داخل فرنسا نفسها، فضلا عن الشعوب المستعمرة والتواقة للحرية في آسيا وإفريقيا.
إن بيان أول نوفمبر بالرغم من بساطة عباراته وسطحيتها أحيانا فهو موجه لعامة الشعب الجزائري للالتحاق بركب التحرر وتجاوزا للأوضاع السائدة آنذاك، ولعل ما يلخص ذلك ما ذكره محمد بوضياف، في إحدى شهاداته بقوله ” في بداية الثورة لم تكن لنا فكرة دقيقة عما يجب أن يكون عليه برنامج الثورة الجزائرية، فلا شيء كان دقيقا ما عدا فكرة الاستقلال الوطني وإشراك الجماهير في الكفاح الوطني”.