نوفمبر جلّ جلالك فينا ألست الذي بثّ فينا اليقين؟
هكذا يقول شاعر الثورة مفدي زكريا.
سفـير الجزائر بدمشق الأستاذ كمال بوشامة يكتـب..في الذكرى التاسعة والستين لثورة أول نوفمبر الجزائرية المجيـدة
نعم، فبهذه الذكرى التي لا تُنسى والسّمة التي لا تُمحى، وهي الاحتفال بنوفمبر المجيد، التاريخ الذي يعززنا بقيمنا القتالية وبالتزامنا وأخوتنا وتضامننا الفعّال مع أنفُسنا ومع القضايا العادلة في جميع أنحاء العالم، فإنه من واجبنا أن نتذكر اللحظات المؤثرة التي عاشتها بلادنا طوال سنوات الجمر، سنوات الكبت والقمع.. إن ثورة نوفمبر في السنة الرابعة والخمسين، ذاك الحدث العظيم الذي سجّله التاريخ العالمي بأحرف أزلية في مخطوطاته، كان رمزاً للحركة المقدسة التي أعلنها جميع المؤرخين بكوكبنا “ثورة القرن العشرين الكُبرى”.
وهكذا، فقد حُظيت بدعم الشعب كُلّهُ، وبالأخص من طرف الناشطين والوطنيين الذين دعموها واحتضنوها وأشرفوا عليها وجاهدوا بكل طاقاتهم لإعادة تأهيل القيم التي أفسدها الاستعمار بَلْ الاستدمار ونظامه القمعي الاستبدادي.
وفي هذا السياق، فلا ننسى كل الأشقاء والأصدقاء الذين شاطرونا وساهموا بثورتنا سياسياً ومادياً وحتى عسكرياً، من دون أي شروط، مع التأكيد على دعمهم الثابت أمام العالم.
نعم، نوفمبر جلّ جلالك فينا ألست الذي بثّ فينا اليقين؟
فمن ماسينيسا إلى ابن مهيدي إلى بوضياف مروراً بالأمير عبد القادر، كانت الرحلة طويلة عبر القرون، حيث لم يكن هناك ركودٌ أو راحة في تاريخنا.. فكل قرن وحقبة عرفتها الجزائر كان لها نصيبُها من الأحداث والرجال.
ومن خلال هذا المناخ، كان شعبنا مُعتاداً على القتال باستمرار.. ولقد فعل ذلك بدافع الضرورة لأنه اضطر للدفاع ضد حملات مُتعدّدة ولاحِقاً ضد الاستعمار القمعي للنظام الفرنسي.. فقام بذلك للحفاظ على وحدته وحماية هويته وتحقيق آماله في تكوين أمة حُرة في تطوير حضارتها المستقلة.
ولهذا السبب، فإن الحديث عن الأول من نوفمبر يُجبرنا على استحضار النضال العادل للشعب الجزائري في أوقات صعبة مؤلمة منذ ذلك اليوم الكارثي المشؤوم في 5 يوليو 1830، حتى حرب التحرير التي سمحت لنا باستعادة سيادتنا الوطنية.
ومن ثُمّ، فمن الضروري لفهم عدالة ثورتنا في هذه الذكرى التاسعة والستين لنوفمبر المجيد من سنة 1954، أن نقول بصدق، بل بفخرٍ، ما كان صعباً ومؤلماً كفاحنا منذ ما يُسمى “حادثة المروحة” في 30 أفريل 1827.. وفي الحقيقة أنّ هذه “الإيماءة المزعومة” التي لم تكن عند البعض ـ المؤرخين بالطبع ـ أكثر من مُشادة بسيطة بين الداي والقنصل الفرنسي، أصبحت ذريعة للحملة على الجزائر واستعمارها.. وهكذا، من خلال هذه الحُجّة شرّعت فرنسا حملتها إلى بلدنا، متناسية الإعلان عن ديونها للوصاية ـ العثمانية وقتذاك ـ وما هي أهدافها التوسعية التي كانت مُبرمجة في الزمن، وخاصة بعد تعرض شارل الخامس (Charles Quint) وإسبانيا لانهزامٍ ذريعٍ بشواطئ آغا بالجزائر العاصمة وأخيراً تولّي نابوليون بونابرت (Napoléon Bonaparte) على جزيرة مالطا عام 1782.
فمنذ ذاك الحين، بدأ نابوليون خُطتّه للغزو حتى 16 يونيو 1827، عندما تقرّر الحصار على السواحل الجزائرية في وقت كان فيه الأسطول الجزائري بأكمله، تقريباً، في اليونان.. نعم، أرادت فرنسا الاستيلاء على مستعمرة أكثرُ ثراءً في القارة الإفريقية.
فالتاريخ يعيد نفسه، لأن “حادثة المروحة” التي كانت ذريعة للحملة الفرنسية على الجزائر كانت مثل كل الذرائع التي تعاقبت عبر الزمن للتدخّل في شؤون الغير والتي ذهبت إلى أقصى حدّ لافتعال حروب أو على الأقل توترات خطرة. فلنذكر في ما يخص سورية والتدخل السافر لفرنسا أيام “نابوليون بونابرت” (Napoléon Bonaparte) الذي حَمّلَ جيشه على احتلال بلاد الشام، وفي باله الدفاع عن المسيحيين المضطهدين، آخذاً ذريعة مذبحة دمشق عام 1860، فهناكَ كان فيها الأمير عبد القادر واقفاً بالمرصاد لردّ الغزاة على أعقابهم، وذلك بعد لقائه الجنرال غورو Gourault في قرية “قب الياس Qob Elias بضواحي شتورة Chtaura، بينما كانت 76 باخرة حربية ترسو في ميناءي بيروت وطرابلس، على استعداد للهجوم.
وهكذا، ونتيجة “ضربة المروحة”، كانت فعلاً الذريعة للإنزال الأول للقوات الفرنسية في سيدي فرج يوم 19 يونيو 1830، ثم الإنزال الثاني يوم 5 يوليو 1830 بأربعين ألف عسكري ليغسلوا، على قول قادتهم، إهانة الداي لقنصلهم، بل لفرنسا كلها.. هكذا كانت عقوبتهم لنا بطريقة وحشية.
ولكن المقاومة في مستوى العظمة أوقعت الغزاة بخسائر فادحة يعني بِخُمُسٍ فوقهم.. هذا وإذا كانت النتيجة بعد ذلك هي احتلال البلاد، فالسبب هو لأن فرنسا الاستعمارية استخدمت قوات ووسائل قمعية شرسة أكثر من أولئك المستعمرين الذين عرفتهم الجزائر قبلهم.
ومن هنا وعندما بلغت قواتها العسكرية أكثر من مئة ألف مسلح، مُدعمين بترسانة هي الأخرى قوية، كان الأمير عبد القادر، الذي بُويعَ لقيادة الجهاد ضد المحتل الفرنسي، يردُّ بكل حزم وعزم على الاعتداءات المتعدّدة، وليس التاريخ المزوّر هو الذي سَيُظهِرُ العكس أو يطمس القومية التي تألق بها بطلنا المِغوار، وذلك لأن أعداءه شهدوا فيه قوة الخلق والذكاء والسلطة التي كان يمارسها على جميع القبائل.. فالجنرالات كلوزال Clauzel وتريزال Trezel ودروي درلان Drouet d’Erlon وآخرون من السفاحين الجلادين والمشيران بيجو Bugeaud وسانت أرنو Saint Arnaud المشهوران بسلوكهما البغيض، كلهم أصابتهم الدهشة والإعجاب ببراعة الأمير عبد القادر وموهبته منذ بداية المقاومة حتى إعلانه إيقاف الحرب عندما اضطر للأسف بقرار كهذا أمام الهمجية الاستعمارية والغدر والمعاناة التي كان يُقاد الشعب من خلالها إلى إبادته مثل الزنوج الحمر بأمريكا.
وعن ذكر هؤلاء المتعطشين للدماء، فقد صرّح المارشال سنت أرنو الذي سوف يضعه التاريخ في مرتبة تيمورلنك Tamerlan، فقد اعترف بنفسه بوحشيته وهو يكتب إلى أخيه بفرنسا: “ليوم سأحرق قرى ومحاصيل ابن سالم Bensalem وبلقاسم أوقاسي Oukaci ، فيمكنك أن تقول للكلٍّ في فرنسا إنّني دمّرت وأحرقت الكثير وإنهم مُحقون في مناداتي بالقوطي والواندالي Le Vandale”.
وطبعاً لا يذكر تاريخ فرنسا شيئاً عن هذه المذابح وعــن هذه الأعمال الشنيعة.. لكن شــعبنا يتذكر.
هذا وقد خُدِعَ الأمير عبد القادر من طرف الفرنسيين، والقصة طويلة وهي مُدونّة بكل التفاصيل التاريخية.. بِكتابي الذي صدر تحت عنوان: “الأمير عبد القادر وعائلته.. المرحلة النهائية في بلاد الشام”، لقد أُودِعَ السجن بقرارهم لمدة خمس سنوات، فاختار بعد إطلاق سراحه دمشق مُعتزله الأخير.. وهنا يتساءل سائل: هل ينبغي أن نقول إن الحرب قد انتهت بعد هجرته إلى بلاد الشام؟
بالتأكيد لا! لأن الجزائريين واصلوا وانتفضوا عام 1871 لتعميم القتال.. واليوم وأقولها للتاريخ إن المسؤول الأول عن هذه الانتفاضة الكبيرة كان ابن الأمير عبد القادر واسمه محي الدين الذي كان مدعوماً بالثائر ناصر بن شُهره. فكلاهما أقلعا من دمشق ودخلا القطر الجزائري في يناير حيث بَدَأا الحركة مع الوطنيين المحليين بالناحية الشرقية.
فهذا التطوّر على المستوى العسكري لم يفشل في إبراز الوعي السياسي لدى الشباب، بل على العكس من ذلك، فقد ساهم بإرساء بداية حركة وطنية لتحرير البلاد.
وهكذا، فالجزائر شهدت ابتداءً من عام 1871، أطول انتفاضة وأوسعها انتشاراً من بين جميع الانتفاضات التي وقعت قبل حرب التحرير عام 1954. وبالتالي، فإن هذه الحركة الخطرة في وجه فرنسا، أو في واقع الأمر، الحركة الوطنية المسلحة، كانت لم تمنح الاستعمار أي راحة.. لقد واصلت الجزائر إظهار معارضة وغضب شبابها وفلاحيها وعُمالها، بل كل طبقات شعبها الشجاع والشريف الفخور.
والحقيقة أن الشعب لم يستسلم أبداً لأنه استمر بنشاطه عبر الزمن.. وهكذا، فإنّهُ منذ عام 1871 وحتى إعلان ثورة نوفمبر المجيدة عام 1954 ومن خلال مختلف الحركات التي أعدتهّا، بما في ذلك الثورات والمعارك السياسية، أدرك الجزائريون أنه من الضروري المزيد من التجنيد والالتزام وخاصة بعد مجزرة 8 ماي 1945، البشعة التي راح ضحيتها خمسة وأربعون ألفاً من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، فقط لمطالبتهم بالاستقلال والحرية.. هذا كله وأعداؤنا المتعطشون للدماء كانوا من مؤسسي “عصبة الأمم” وهي منظمة دولية للحفاظ على السلام في أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
هل نفهم من ذلك أن عصبة الأمم وقتذاك كانت لا توّلي وجهها إلى القارة السمراء التي تقع فيها الجزائر؟ نعم! وحتى اليوم يعيش العالم سياسة الكيل بمكيالين وأحسن مثال هو ما يقع في سورية مقارنة بالإفلات من العقاب أو التواطؤ الذي يعتمده الكيان الصهيوني رغم كل انتهاكاته وجرائمه. نعم، فقد قرّر صانِعو الحروب حصاراً إجرامياً على سورية الشقيقة، بلد الحضارة العريقة والعظيمة، بعد الأحداث الداخلية بدرعا، كما نَسيَ قتلة الأبرياء من قَتلُوا في جنين وقبلها كل المجازر التي تعرّض لها السُكان في كثير من المناطق منذ اغتصاب فلسطين.
واليوم أيضاً، أصبحت الأمم المتحدة بعيدة بعض الشيء عن اتخاذ قرارات صريحة، في وقت تتزايد فيه الضربات الوحشية ضد سكان غزة. ومن هنا نقول بصوت واحد في هذا الموقف الذي يُشبه التواطؤ أو الخوف من القِوى العُظمى بالعالم: أيُبرّأُ الجلاد وتُدانُ الضحية؟.
لِيعلموا جميعاً أن الخسائر في الأرواح في المستشفى الأهلى بغزة هي مأساة ينبغي أن تُرعِب كل إنسان، بينما تُذكِرُنا بجرائم الحرب العديدة المرتكبة ضد الفلسطينيين الأبرياء.. وها هي تستمِرُ هذه الجرائم مُتَسِمةً بالتعذيب والتجويع والإبادة.. فالعدوان الهمجي الأخير، الذي استعمل فيه الصهاينة الأسلحة المحظورة لاستهداف مراكز المواطنين، هو جريمة إنسانية عندما قصفوا الأبرياء في المنازل والمدارس والمستشفيات..
فعنْ أي جُرحٍ تبكي الأم الفلسطينية وكل أولادها استشهدوا بعد أن تعرضوا لضرباتٍ وحشية إجرامية وهم تحت الركام؟ وعن أي جرح تنعيه أمّ وزوجة وخطيبة الضابط الشاب في أكاديمية حمص بعد الهجوم الإجرامي الذي نَفّذتهُ التنظيمات الإرهابية المسلحة المدعومة بِصُناعِ الحروب والذي خلّفَ 112 قتيلاً بينهم 21 مدنياً و120 جريحاً على الأقل، وقد تّم تنفيذه باستخدام طائرات مسيّرة ومُحملّة بالمتفجرات حين استهدفت هذه الأكاديمية التي تُعتبر مفخرة ورمزاً للجنود الذين يشكلون عمودها الفقري.. إلاَّ أن الشعب السوري الشقيق، الذي يتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الصمود أمام المحن الأليمة التي مرَّ ويمُّرُ بها، سيتمكن بفضل وحدتهِ من مواجهة التحديات الكبيرة التي فرضتها آفة الإرهاب والعقوبات اللاإنسانية الإجرامية للامبريالية الأمريكية.