11 ديسمبر 1960، هي محطة فارقة في تاريخ الجزائر وسجلت قرار لا عودة عن محتوى بيان أول نوفمبر، واسترجاع السيادة الوطنية.
المظاهرات كشفت للعالم بأن هناك شعب يقاوم ولا عودة عن قرار الحرية
هذا ما يؤكده البروفيسور حسان مغدوري، أستاذ التعليم العالي في التاريخ الحديث والمعاصر وعضو جمعية أصدقاء الثورة في حديث لـ”الشعب”، ويضيف أن الإبادة الجماعية هي خيار استيراتيجي للإستعمار الإستيطاني، وهذا ما يقوم به الكيان الصهيوني اليوم ضد الفلسطين وبمباركة الغرب.
تعتبر مظاهرات الـ11 ديسمبر 1960، من المنعرجات الحاسمة في تاريخ الثورة الجزائرية، هل يمكن عرض السياق التاريخي الذي سبق هذه المظاهرات؟.
البروفيسور حسان مغدوري: 11 ديسمبر 1960، هي محطة فارقة في تاريخ الجزائر وسجلت قرار لا عودة عن محتوى بيان أول نوفمبر، الذي سطر إقامة الدولة الجزائرية المستقلة، مثلما تعلمون أن هذه الأحداث جاءت في عهد الجنرال شارل ديغول، هذا الشخص الذي وصل إلى السلطة بموجب الإنقلاب الشهير في 13 ماي 1958.
شارل ديغول، اعتمد الحرب الشاملة ومقاربة سياسية اقتصادية اجتماعية ونفسية، على كافة المستويات، من أجل القضاء على الثورة، هذه الأخيرة عرفت أعنف مراحلها في هذه الفترة، لأن الذين أوصلوا ديغول، إلى السلطة كانوا قد هتفوا باسم ديغول، على إعتبار أنه الرجل الموثوق، الذي ينقذ الجزائر فرنسية مثلما كان يحلم بها المستوطنون.
إذا ما رأينا السياسة العامة لديغول، بتنصيب ميشال دوبري على رأس الحكومة، وهو أكثر المتطرفين من اليمين، الذين كانوا يسيرون وفق نظرية الجزائر فرنسية ولهذا فديغول، لم يدخر أي جهد سياسي أو إقتصادي، او إجتماعي في محاولة لعزل الجزائريين عن الثورة والإلتفاف حول جبهة التحرير الوطني، أولا من خلال مشروع قسنطينة الشهير، في 3 أكتوبر 1958.
ديغول لم يدخر أي جهد في محاولة لعزل الجزائريين عن الثورة
واتبعه بمشروع سياسي اخر سلم الشجعان في 23 أكتوبر 1958، إلى المخطط العسكري الشامل، الذي سيج الحدود الشرقية والغربية عن طريق خطي شال وموريس، وعزز هذه الخطوط بالكهرباء والألغام، ووضع المحتشدات، وأشرف على عمليات عسكرية مكثفة بين كافة القوات، وحصد الملايين من الشهداء عبر القطر الجزائري.
سخر ميزانية ضخمة بما يعادل تقريبا 2 مليار فرنك فرنسي سنويا، كانت تصرف فيما كانوا يسمونه بحفظ التهدئة، كل هذا لم يثن ديغول، في أن يصل إلى ما كان يطمح إليه خاصة دعاة نظرية الجزائر فرنسية.
ديغول، كان رجال سياسيا ملما بالتغيرات الدولية وكان يعلم بأن هناك تحولات عميقة وقعت في المجتمع الدولي لاسيما اختلال التوازن وظهور القوة شرق وغرب، وبداية انحصار الإستعمار,
ولذلك فكر ديغول، في الإحتفاظ بالجزائر ولكن بصيغة جديدة فيما يعرف بالجزائر جزائرية، هذه الأخيرة كان يحلم بها ديغول في أن تكون فسيفساء من الأعراق والإثنيات وكان يعلم بأن الأوربيين سيكون لهم دوما السلطة والسيطرة باعتبار أن المستوطنيين هم، الذين كانوا يسيطرون على مقدرات البلاد وعلى مقاليد الحكم وكل الإمتيازات بأيديهم.
غير أن هذا التصور لم يكن ليرقى للمستوطنين المتطرفين، الذين لم يكونوا ينظرون أبدا إلى أن الجزائر سيشاركهم فيها غير الفرنسيين، حمل هذا المشروع مع مشاورات مع النخب السياسية وأراد أن يقدم هذا المشروع كبديل أولا عن الجزائر فرنسية، التي كان يحلم بها المستوطنون ويسترضي إلى حد ما الجزائريين، الذين كانوا في اعتقاده يؤمنون بأنه إذا أدخلت فرنسا اصلاحات فربما ذلك سيغنيهم عن الإبتعاد عن الثورة.
زار ديغول، يومي 8 و9 ديسمبر 1960، منطقة عين تيموشنت، باعتبارها منطقة تمثل وكر لكبار ملاك الأراضي، فيما يتعلق بالكروم، كان ينتظر بأنه سيكون له دعم لمشروعه الجزائر جزائرية، لكن المفاجئة أن المستوطنين حشدوا له مظاهرات عارمة انتقدت سياسته ووقفت ضد هذا المشروع، واعتبرت بأن هذا المشروع هو خيانة لهم ولطموحاتهم، لأن المتطرفين هم الذين أوصلوا ديغول، إلى الحكم بعد 13 ماي 1958.
لكن هنا نجد معطى جديد سيظهر وهو أن الجزائريين سيخرجون ويعبرون عن الطرح، الذي كانت تنادي به الثورة وهو الجزائر جزائرية مسلمة بمعنى مفصولة عن فرنسا، هذه المظاهرات ستنتشر إلى مدن أخرى في الأيام الموالية 10 و11 ديسمبر لتعم مناطق وهران والشلف، باتنة، وتيبازة والبليدة والعاصمة وغيرها من المناطق، كتعبير على أن الجزائريين، الذين لم يرضوا بالجزائر فرنسية لن يرضوا بالجزائر جزائرية، مثلما كان يحلم بها ديغول، فقد كانت مناورة من أجل الإحتفاظ على الأقل بالجزائر لتبقى دوما في اطار حظيرة الدولة الفرنسية.
وهنا أثبت الجزائريون بأنهم ملتفون حول الثورة وبأنهم جزءا منها، بل هم الثورة، لذلك سنرى أن هذه الأحداث سيكون لها تبعات ومكاسب بالنسبة لجبهة التحرير الوطني.
في هذا السياق، ما هي أبرز المكاسب التي حققتها داخليا وخارجيا؟
أولا خلفت هذه الأحداث على المباشر إذا ما استرشدنا بالرقم، الذي ورد في جريدة المجاهد حوالي 500 شهيدا، لا يمكن ضبط الأرقام لأنه كان هناك نوع من التعتيم والتكتم لاسيما عندما يتعلق الأمر بسقوط ضحايا من الجزائريين، ومن جهة أخرى كشفت هذه الأحداث للعالم بأن هناك شعب يقاوم وبأن الثورة الجزائرية حقيقة واقعة كما ورد في بيان أول نوفمبر.
وكذلك علم ديغول، بأن سياسته لم تكن في الإتجاه الصحيح وبأن كل ما إدخره من مجهود ومن تسخير لقدرات الدولة الفرنسية في سبيل الإحتفاظ بالجزائر، لم يأت بثمار لاسيما أن المشاريع، التي حملها ديغول، كانت ضخمة بالشكل الذي في نظره لم يكن يترك مجالا للإخفاق في هذا المشروع.
لكن تلك الجهود والوحشية العسكرية، التي وظفها في حق الجزائريين، لم تثن هذا الشعب للخروج والتعبير مرة أخرى بأنه متمسك بحقه في الحرية والإستقلال مهما كانت التضحيات.
على الصعيد السياسي، خلفت هذه الأحداث أزمة لدى الطبقة السياسية داخل فرنسا، هنا تبدأ أزمة الفراق بين اليمين المتطرف وغلاة المستوطنين دعاة الجزائر فرنسية وبين ديغول، وهو الذي سيؤسس من جهة ما يعرف بمنظمة لواس، والتي رفضت رفضا قاطعا التوجه السياسي الذي سار فيه ديغول.
ونجد أن جبهة التحرير الوطني أطرت هذه المظاهرات وعرفت العالم بأن جبهة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للجزائريين، وبأن هذا الشعب لا يسير إلا وفقا لقرارات الثورة الجزائرية والتوجه العام، الذي كان يطمح إليه الجزائريون في نيل الإستقلال.
في 16 ديسمبر توقفت هذه المظاهرات، وهو دليل على أنه كان هناك تلاحم حقيقي بين الجزائريين والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، التي كانت فتية وهنا ديغول، سينتقل من المفاوضات السرية، التي كانت بدأت في 1960، ولكنها فقط كانت من أجل جس النبض للوقوف على الثغرات حسب ديغول، التي يمكن أن يتسلل منها من أجل الإطاحة بطموحات الجزائريين.
لكن بعد هذه المظاهرات استعد ديغول، للشروع في المفاوضات، وفي المقابل، القضية الجزائرية كانت مطروحة على جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي نالت تصويتا في 19 ديسمبر 1960، واللائحة رقم 1573، التي اعترفت بحق الجزائريين في تقرير المصير.
الجزائريون أثبتوا تحديهم لسلطات الإستعمار ولسياسة ديغول، وأحبطوا اختراق الثورة، التي كان يسعى إليها ديغول، سواء من خلال المشاريع الإقتصادية خاصة مشروع قسنطينة، الذي خصص له انذاك حوالي 200 مليار فرنك وكان يعتزم تحقيق اهداف على امتداد خمس سنوات، لكن لم ينجح. ثم أن العالم إطلع على ما يجري في الجزائر بأن الشعب الجزائري يدافع عن قضية عادلة ويمثل كيانا واحدا ممثله الشرعي جبهة التحرير الوطني.
هذا الشعب قدم مرة اخرى في سبيل السير في الطريق نحو الحرية، إضافة إلى أن القضية الجزائرية ستأخذ طريقها في المستقبل في الدخول في مفاوضات جادة ستنتهي مع 19 مارس 1962، بوقف إطلاق النار ثم الإستفتاء. هذه المحطة تمثل اللاعودة عن قرار الحرية واسترجاع السيادة الوطنية.
ما ميز مظاهرات الـ11 ديسمبر أنها مظاهرات شعبية من أجل المطالبة بحق تقرير المصير، ما عجل في استئناف المفاوضات؟
هناك دوما محاولة للتحايل على العقول بتقديم الثورة الجزائرية وكأنها جيش وشعب، والحقيقة أن الثورة الجزائرية هي كيان واحد متناغم جيش التحرير الوطني هو إبن هذا الشعب الجزائري، هذا الأخير كان دوما هو الحاضن لهذا الجيش وقدم تضحيات في سبيل حماية هذا الجيش، ويدافع من أجل قضيته.
الإبادة الجماعية هي خيار استيراتيجي للإستعمار الإستيطاني
قلتم في مداخلة يوم 4 ديسمبر بأن الإبادة الجماعية هي إختيار استراتيجي لجيش الإحتلال الفرنسي، ألا ترون أن المجازر، التي ارتكبت في حق الجزائريين هي نفسها ترتكب اليوم ضد الفلسطيين من طرف جيش الإحتلال الصهيوني؟
بطبيعة الحال المعادلة واحدة أن الإستعمار الإستيطاني حينما يحل ببلد فإنه يعمد دوما من حيث المبدأ إلى إبادة السكان المحليين من أجل إحلال السكان الجدد، لأن هؤلاء سيصطدمون في المستقبل مع مشكلة الهوية، من هم ومن أين جاؤوا؟.
وحيثما بقي الإنسان الأصلي صاحب الأرض موجودا فإنه عاجلا أم أجلا سيطالب بهويته وبحقه في هذه الأرض، إذن المسألة إستيراتيجية للمستقبل وهذا أعاق فرنسا، بالنسبة للفرنسيين، الذين ولدوا في الماضي على أرض الجزائر وكانوا يعتبرون بأن الجزائر فرنسية، غير أن هذا الحلم لم يتحقق لهم مادام أن هناك شعب بقي في الميدان يكافح عن أصله وعن هويته.
حينما نراجع التاريخ نجد أن كل البلدان، التي تعرضت إلى الإستعمار الإستيطاني لم يخرج منها وبقي قابعا ثابتا لأنه اسنخدم حروب الإبادة، هذا نسجله في امريكا كنموذج ونسجله في استراليا، الشعب الوحيد الذي تمكن من أن يحسم معركته مع الإستعمار الإستيطاني هو الشعب الجزائري.
حينما نراجع الوثائق الأرشيفية والتقارير، التي وضعها العسكريون مع بداية الإحتلال، نجد أنه من بين الإختيارات التي وضعت على أنه لا يمكن أن يكون لفرنسا مستقبلا في الجزائر إلا إذا تخلصت من السكان، واقترحوا صراحة أنه إذا أردنا البقاء في هذه الأرض فعلينا استقدام السكان وعلينا إبادة السكان الأصليين لهذه الأرض.
هذا هو الإستعمار الإستيطاني، ما تقوم به اسرائيل يندرج ضمن فلسفة كلاسكية تعتبر بأن التمكين للإستيطان لا يمكن أن يتحقق إلا بإبادة الشعب الأصلي، يبقى الأن أن كل دولة محتلة تحاول تطبيق استيراتيجية معينة، لكن من حيث الأهداف الإستيراتيجية تحاول ابادة السكان.
ما تقوم به اسرائيل حرب ابادة صريحة باعتبار انها تجاوزت الأعراف والقوانين والقيم والأخلاق، هذا القصف العشوائي في حق الأطفال، الشيوخ، النساء والعزل والموثق من طرف وسائل الإعلام نراه في كل لحظة ، والغريب في الأمر أنه في الوقت الذي كنا نتابع على شاشة التلفزيون عملية تبادل الأسرى وإدعاءها بالمحافظة على حياة الأسرى، في هذا الوقت كانت تقصف وتقتل أطفالا عزل ونساء، ناهيك عن الأضرار التي تلحق بالبيئة ولا ندري الأساليب الوحشية من الناحية العسكرية التي تستعملها اليوم في حق الشعب الفلسطيني بمباركة الغرب.
حينما نعود الى تاريخ اليهود في فلسطين، فإن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، زرعوا هذا السرطان في كيان الأمة العربية وهو الذي مازال يسري إلى اليوم للأسف الشديد، وأؤكد بأن الإبادة هي خيار استيراتيجي بالنسبة للإستعمار الإستيطاني.
طوفان الأقصى أثبت للعالم بأن تيار المقاومة متجذر في عقل الإنسان الفلسطينيي
هل يمكنكم تقديم قراءة في معركة طوفان الأقصى، وتداعياتها على ضوء أحداث معلمية في الجزائر؟
هذه المعركة قيمتها أنها أثبتت للعالم بأن كل ما قامت به إسرائيل في سبيل تثبيت وجودها في منطقة فلسطين، على أنها كيان طبيعي قد أخفق وفشل وبأن هذا الشعب الفلسطيني رغم الحصار والضعف، الذي يعانيه من كافة الزوايا. ورغم هذه العزلة، التي يعيشها مازال يقاوم.
وللأسف الشديد فإن كثير من شعوب العالم حتى الأشقاء تخلو عن القضية الفلسطينية.
والأكثر من ذلك أنهم يدعمون هذا الكيان الصهيوني من خلال ما يعرف بسياسة التطبيع، التي أصبحت مفضوحة، ومع ذلك فالشعب الفلسطيني الأن يقاوم بالجيل الجديد لأنه حينما نعود تاريخيا فالأزمة بدأت في 1948، حينما أعلن عن الكيان الإسرائيلي.
ولكن رغم تعاقب الأجيال، والتي كان يعتقد أن شعلة الثورة قد ماتت، ها هي تعود وبحدة وكشفت عيوب ما تدعيه إسرائيل بأنها دولة قوية تملك الإمكانيات، وربما تستطيع التوسع على حساب دول الجوار.
لكن عملية طوفان الأقصى، أثبتت للعالم بأن هناك شعب حي وبأن تيار الثورة والمقاومة عميقا في عقل الإنسان الفلسطينيي، نستطيع المقارنة بينه وبين الجزائر في مقارعتها للإستعمار من خلال شعلة المقاومة التي لم تنطفئ، فرنسا حينما وقعت معاهدة ما تسميه بالإستسلام وإن كانت هي معاهدة إستئمان، لحد الأن تقدم هذه المعاهدة بشكل مغلوط وكأن الداي حسين، سلم الجزائر لفرنسا بغير النظر إلى السياق والظروف.
الجزائريون أخذوا مسؤوليتهم في الدفاع عن هذه الأرض، وقاوموا على كامل القطر الجزائري ابتداء من مقاومة الامير عبد القادر في الغرب ثم مقاومة احمد باي بالشرق في التوقيت نفسه ومقاومة متيجة، ظهرت هذه الثورة الشعبية التلقائية للدفاع عن الجزائر.
وقف الحرب ضد الامير عبد القادر، في 1849 قد مثل بالنسبة للفرنسيين نهاية لهذه الثورة، لكن سرعان ما اندلعت هذه الأخيرة من جديد في منطقة القبائل ثم اولاد سيدي الشيخ بالغرب، وفي الشرق ثورة المقراني، وعند بوعمامة والأوراس، بمعنى أن هذه المحطات حتى وإن لم تحقق في العاجل أهدافها، فهي تؤكد بأن التيار الثوري والإصرار على تحرير الجزائر مازال شعلة منتقدة، وهذا هو الاساس في تاريخ الشعوب حينما تحافظ على وعيها بكيانها وتتمسك بحقها، هذه هي اللبنات التي تبني الصرح وتحقق الإنتصار في النهاية.