مرت المفاوضات بين الوفدين الجزائري والفرنسي بمراحل، تعثرت في بداياتها بسبب تعنت الوفد الفرنسي، الذي لم يقبل في البداية التفاوض مع الجزائريين.
في اتصالات مولان الأولى في الفترة 25-29 جوان 1960، أرسلت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية مبعوثين هما محمد الصديق بن يحي وأحمد بومنجل.
في هذا الصدد، يذكر المجاهد ورئيس الحكومة المؤقتة بن يوسف بن خذة، في شهادته في كتاب “نهاية حرب التحرير: اتفاقيات ايفيان”، أن الحكومة الفرنسية لم تعاملهما على أساس مفاوضين بل على أساس متمردين وعزلتهما في مقر عمالة مولان، من 25 الى 29 جوان 1960، حيث حرما من كل الحريات الفردية والزيارات والإتصالات مع الصحافة.
يقول: ” أثناء ذلك كان شارل ديغول، في غمرة المساومات مع إطارات الولاية الرابعة من أجل وقف اطلاق النار في تلك المنطقة فقط، والحكومة المؤقتة لا تدري شيئا عن ذلك ولا عن المناورات، التي يقوم بها ديغول، الذي رفض التفاوض مع جبهة التحرير الوطني لوقف إطلاق النار في كامل التراب الوطني وشروطه هذه تعني استسلام جيش التحرير الوطني”.
ويضيف بن خدة: “اغتنم ( أي ديغول) الفرصة ليدعم في الوقت ذاته قواته المسلحة في الجزائر بتوفير كل الإمكانيات من أجل تحقيق نصر عسكري ذلك ما عرف بعمليات شال، كما دعم الخطوط الموضوعة على كامل الحدود وعن طريق وسائله الإعلامية شرع يحمل الحكومة المؤقتة مسؤولية فشل مفاوضات مولان، ونشر ضباط الفروع الإدارية الخاصة الدعاية في القرى زاعمين ان فرنسا تدعو للسلام والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ترفضه”.
ويشير بن خذة الى أنه بعد انتظار ثمانية أشهر أخرى، أي الى غاية شهر فيفري 1961، بدأت الإتصالات الجدية، حيث كانت المفاوضات صعبة للغاية، وقال: ” النتيجة تتوقف على وحدتنا ودعم الجماهير، من خلال الإنتفاضات الشعبية العارمة التي جرت يوم 11ديسمبر 1960 في الجزائر العاصمة، وفي بعض المدن الكبرى والتي كانت منعرجا في مسيرة الثورة وحدثا حاسما في تاريخ معركتنا المسلحة وفي سير المفاوضات”.
ويضيف المتحدث “أن هذه الإنتفاضات أظهرت روح الكفاح والقدرات النضالية، التي ظلت مرتفعة لدى الجماهير رغم الإرهاب البوليسي والعسكري قأقنعت ديغول، بأن كل محاولة ترمي الى فرض حل عسكري ستبقى بدون جدوى كما كانت هذه الإنتفاضات عاملا حاسما في تعجيل سير المفاوضات”.
ويشير بن خذة، استنادا الى مصادر فرنسية، غلى أن القوات الفرنسية بلغ عددها 500 ألف جنديا، علاوة على القوات المساعدة والمتمثلة في المليشيات الإقليمية والدرك، فرق الجمهورية للأمن والشرطة والحركى، إضافة إلى الطيران والبحرية والدعم الضخم من منظمة الحلف الأطلسي، وتقدر تكاليف الحرب بثلاثة مليارات فرنك يوميا وهو ما يعادل اليوم 18مليار على الأقل، أما الفرع الإداري الخاص يتكون من فرقة من الجيش الفرنسي مهمتها النشاط السيكولوجي ومراقبة المواطنين، يقول بن خذة.
وعن لقاء لوسارن في 20 فيفري 1961، يقول المجاهد بن خذة: “بعد مرور شهرين على هذه الأحداث جرت اللقاءات الجدية الأولى بين الجزائريين والفرنسيين بلوسارن سويسرا، يوم 20 فيفري 1961، بواسطة الوزير السويسري المكلف من طرف حكومته برئاسة الجمعية الأوروبية الخاصة بالتبادل الحر أوليفي لونغ، وأوكل ديغول، المهمة لجورج بومبيدو، الشخص الذي يثق فيه ديغول كل الثقة”.
في حين الوفد الجزائري مثله الطيب بولحروف، وأحمد بومنجل، و”من النقاط التي أثارها بومبيدو، والذي كان يرافقه برونو دولاس، مدير الشؤون السياسية بوزارة الخارجية الفرنسية، المؤسسات المؤقتة، ضمانات لتقرير المصير، جنسية الأقلية الأوروبية، مفهوم وشكل السلطة التنفيذية المؤقتة، ضمانات وتمثيل الأقليات”.
يقول بن خذة: ” أكد الوفد الجزائري من جديد مبادئنا وتمسكه بما تقره الحكومة المؤقتة، كانت مواقف الطرفين متباعدة جدا، وقد رأى الوفد أن يبقى الأمن العام في هذه المرحلة من صلاحيات القوات المسلحة الفرنسية ورد بومبيدو، على ممثلي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بأن قضية الصحراء لا نقاش فيها، وأضاف قائلا أن الصحراء بحر له سواحل تسكنها شعوب ساحلية والجزائر واحدة من تلك الشعوب، وعلى فرنسا أن تستشير الجميع”.
و”فيما يتعلق بمسألة الجيش الفرنسي فقد تركها جانبا، واعتبر المرسى الكبير ملكا من الأملاك الفرنسية، ولم يرغب ديغول، في التطرق الى الحرب أو وقف اطلاق النار ، بل أكد على الهدنة، بقوله: “عندما يتم التفاوض على الهدنة سيصدر بيان عن الحكومة الفرنسية، يعقبه بيان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تدين فيه الإرهاب، وكل عملية من أعمال العنف، بعد ذلك سيطلق سراح الوزراء الخمسة ليشاركوا في المفاوضات”.
الحكومة المؤقتة: وحدتنا مرهونة بالصحراء
“رفضت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية خلال المناقشات الفصل بين وقف اطلاق النار وضمانات تقرير المصير، ورفضت الهدنة وفكرة التيارات وتجزئة التراب الوطني، وقد كان موقف ديغول، الحكم الذاتي، فصل الصحراء عن الجزائر، تجزئة الجزائر عرقيا، طاولة مستديرة والهدنة”.
وبداية مارس 1961، إلتقى الوفدان من جديد بسويسرا، وأثار بومبيدو، فكرة الهدنة من جديد، وقال إنه سيتبعها بإطلاق سراح الوزراء الخمسة ورفض أي مناقشة حول الصحراء من الناحية الجوهرية مع قبول التطرق الى نقاط تقنية تخص الإطارات والتقنيين ورؤوس الأموال والإستشارات واقترح الصيغة التالية: ” إعلان عام عن الإختلاف حول السيادة الشعبية على الصحراء وتأجيل التفاوض حول هذه القضية بعد تقرير المصير”.
يؤكد بن خذة في هذا الصدد: ” يعد هذا خطرا كبيرا على مستقبل الدولة الجزائرية، بحيث يحتمل نشوب حرب جديدة من أجل إعادة توحيد ترابها مع إحتمال حدوث مناورات من طرف القوات المحتلة لكسب تأييد الدول المجاورة للصحراء، لاسيما أن إخواننا المغاربة كانوا يضغطون علينا بمطالبهم الترابية، فمحمد الخامس كان يطالب بتندوف ومنطقتها، كما طالب ابنه الحسن الثاني بهما فيما بعد وطالب بورقيبة بعلامة الكيلومتر رقم 233″.
وقبل الطرف الفرنسي أثناء الإتصالات السرية بسويسرا أن تكون جبهة التحرير الوطني الممثل الوحيد للشعب الجزائري وتبقى المناقشات حول الصحراء مفتوحة، وأعلن فتح المحادثات في ايفيان يوم 07 أفريل 1961، لكن وزير الدولة المكلف بالجزائر لويس جوكس، صرح أثناء ندوة صحفية بوهران، ان المفاوضات ستجرى أيضا مع الحركة الوطنية الجزائرية، فرفضت الحكومة المؤقتة حضور مفاوضات إيفيان، يوم 07 أفريل.
يوم 20 أفريل 1961، تعرض ديغول لمحاولة انقلاب عسكري من قبل أربع جنرالات وأدرك الخطر الذي سببته حرب الجزائر على نظامه وبلده، وتخلى عن اشراك الحركة المصالية او أي تيار آخر، وانطلقت المفاوضات يوم 20 ماي 1961 وترأس الوفد كريم بلقاسم، سعد دحلب، محمد الصديق بن يحيي، الطيب بولحروف، أحمد فرانسيس، أحمد بومنجل ، والرائدين أحمد قائد، وعلي منجلي، وكان رضا مالك، المتحدث الرسمي بإسم الوفد وترأس الوفد الفرنسي لويس جوكس.
“ارادت الحكومة الفرنسية اعطاء ضمانات للإنفراج فسمحت لجزء من 2.500.000 من المعتقلين في المحتشدات الموضوعة تحت مراقبة الجيش الفرنسي بالخروج واطلاق سراح 6 الاف معتقلا، كما حسنت وضعية الوزراء الخمسة للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المعتقلين في فرنسا ، وأعلنت وضع حد للعمليات الهجومية وحاولت ان تحصل من جبهة التحرير الوطني على إيقاف المعارك للوصول إلى الهدنة”.
يقول بن خذة: “المعارك لم تتوقف وكنا على حذر من الإستعمار في هذا الظرف إذ لولا هذا الكفاح المسلح لما قبلت الحكومة الفرنسية أبدا المفاوضات معنا، اعترف ديغول، بأن السياسة الخارجية هي من صلاحيات الدولة الجزائرية، ولكنه تمسك بموقفه إزاء الصحراء وبقيت مواقف الطرفين دون تغيير”.
دور دحلب البارز
تعثرت المفاوضات، وبتاريخ 13جوان 1961، توقفت إثر مبادرة فرنسية جديدة، لكن الطرفين قررا البقاء على إتصال، وعين سعد دحلب، الذي أدى دورا هاما ضمن الوفد للبقاء كممثل للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في جنيف إلى غاية 20 جويلية، وسيكون الوسيط بين المبعوثين الفرنسيين والحكومة المؤقتة وسيحاول دحلب الإستفادة من هذه الفترة لنشر المعلومات وتعريف و”شرح مواقفنا للعديد من الوفود الأجنبية، خاصة الوفود الفرنسية المارة يوميا ببوادافور Bois d’avault, قرب جنيف”.
وإلتقى الوفدان من جديد يوم 20 جويلية 1961، بعد تبادل وجهات نظر في لوقران بفرنسا القريبة من الحدود السويسرية.
أخفقت محادثات الطرفين حول قضية الصحراء، وتوقفت المفاوضات وكانت هذه المرة بمبادرة من الطرف الجزائري.
اجتمع المجلس الوطني للثورة بطرابلس بين 9 و27 أوت 1961، وأحدث تعديلا في الحكومة المؤقتة، حيث عين بن يوسف بن خذة، رئيسا للحكومة المؤقتة ، وكانت الصحراء ضمن جدول أعمال المفاوضات.
يقول بن خذة في شهادته: “أكدت على مسألة الصحراء بلهجة أدبية متزنة لكي لا أحرج ديغول أو مجموع رؤساء الدول والحكومات الحاضرين، الذين تربطهم بفرنسا علاقات دبلوماسية واقتصادية وثقافية، كان هذا السلوك محل تقدير من المشاركين في المؤتمر، اذ حصلنا على أربع اعترافات جديدة بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من يوغسلافيا، كمبوجيا، أفغانستان وغانا “.
لقاء بال الأول والثاني
جرى اللقاء الأول في مدينة بال السويسرية يومي 28-29أكتوبر 1961، يتكون الوفد المكلف بالاتصال مع الفرنسيين من محمد الصديق بن يحيى، ورضا مالك ومثل ديغول برونو دولوس Bruno de Leusse، وكلود شايي Claude Chaillet، وتبقى الوحدة الترابية بالنسبة للوفد الجزائري الإهتمام الأساسي، غير أن الوفد الفرنسي رفض أن يوضح موقفه حول استفتاء شامل يطبق على مجموع التراب الوطني بما في ذلك الصحراء، يقول بن يوسف بن خذة.
ويشير المتحدث إلى أن وجهة نظر الحكومة الفرنسية في اللقاء الأول ببال السويسرية، كانت انهاء المحادثات نهاية نوفمبر واعلان وقف إطلاق النار بداية 1962، ويضيف: ” لم نخفف من ضغطنا على ديغول، خاصة وأن الوفد الفرنسي أثار تخوف ديغول من مظاهرات الجالية الجزائرية بفرنسا في 17أكتزبر 1961.”
“كلف محمد الصديق بن يحيى، ورضا مالك بتقديم الأجوبة نيابة عن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في لقاء بال الثاني بتاريخ 9 نوفمبر 1961، وأستأنفت المحادثات في 9 ديسمبر 1961، بين سعد دحلب مرفوقا بمحمد بن يحيى، ولويس جوكس مرفوقا ببرونو دولاس، واقترح جوكس، استفتاء منفصل فيما يخص قبائل الطوارق الرحل وقبائل الرقيبات في منطقة تندوف، وجرى لقاء آخر يوم 23 ديسمبر 1961.”
ويضيف: “جرت محادثات لي روس من 11 إلى 19 فيفري 1962، وقبل الفرنسيون في النهاية فهمنا لوقف إطلاق النار ونوقشت فيها كل المواضيع وحررت النصوص، كان المجلس الوطني للثورة الجزائرية هو الوحيد المؤهل للإعلان عن وقف إطلاق النار، وافترق الوفدان ثم التقيا فيما بعد بإيفيان للمفاوضات الرسمية”.
“اجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية بطرابلس من 22 الى 27 فيفري 1962، لدراسة نص اتفاقيات ايفيان في كل جزئياتها.
كان سعد دحلب، هو المقرر وصوت المجلس الوطني للثورة الجزائرية بالإجماع ما عدا أربعة، على مشروع نص الإتفاقيات، وصوت بالتأييد الوزراء الخمسة الموجودين بألنوي، وهم حسين أيت أحمد، أحمد بن بلة، رابح بيطاط، محمد بوضياف، محمد خيضر، وبعثوا لبن يوسف بن خذة بوكالة تخول له حق التصويت بإسمهم وأرسل أعضاء الولاية الثانية أيضا وكالتهم ليصوت بن خذة، باسمهم أثناء اجتماع المجلس الوطني للثورة”.
وافتتحت المفاوضات من جديد يوم 7 مارس رسميا وترأس كريم بلقاسم، الوفد الذي تألف من لخضر بن طوبال، سعد دحلب وامحمد يزيد كأعضاء للحكومة، وبن يحيى والطيب بولحروف، ورضا مالك والصغير مصطفاي والرائد بن مصطفى بن عودة كممثل لجيش التحرير الوطني.
وبعد 12يوما من المناقشة الحادة وصلوا إلى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار، ولم يوقع كريم بلقاسم بإسم الوفد الجزائري إلا عشية 18 مارس 1962، وفي اليوم نفسه أمر بن يوسف بن خذة، بإذاعة اعلان وقف اطلاق النار على أمواج اذاعة تونس بهذه العبارة: “بإسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وبتفويض من المجلس الوطني للثورة الجزائرية، أعلن وقف إطلاق النار في كافة أنحاء التراب الجزائري ابتداء من 19مارس 1962، على الساعة الـ12، آمر بإسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كل قوات جيش التحرير الوطني المكافحة بوقف العمليات العسكرية والإشتباكات المسلحة على مجموع التراب الوطني”.
وقف اطلاق النار نهاية كابوس مذابح وإعتقالات وإغتصاب
وأعطى الجنرال ديغول، قبل ذلك بقليل الأوامر نفسها للقوات الفرنسية.
في هذا الصدد، يصف بن خذة ذلك اليوم بقوله: ” استقبل أمر وقف إطلاق النار في كل أرجاء البلاد بارتياح عميق فتحقق حلم المجاهدين والأجيال العديدة من الجزائريين منذ 1830، ألا وهو الإستقلال الذي لم يشك فيه أحد، وكان ذلك نهاية لكابوس طويل ملئ بالإغتيالات ومذابح السكان المدنيين والإعتقالات والتعذيب والتفتيش والإغتصاب”.
ويضيف: “كان الشعب والمجاهدون والمحكوم عليهم بالإعدام والمساجين والمعتقلون والمحتشدون واللاجئون يقدرون هذه النعمة لأنهم تكبدوا أشد الآلام”.