يعدّ الأمير عبد القادر، رمزا بارزا من رموز الجزائر المقاومة والثائرة ضدّ الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر.
أسّـس شكل الدّولة الحديثة..
تعدّ مقاومته البطولية، التي امتدت على مدى عدّة سنين الحلقة البارزة في المقاومة الشعبية الوطنية الجزائرية، كما أنّه من جانب آخر وبرغم حجم الدراسات التي توجّهت نحو تاريخه العسكري، وفصلت فيه.
فإنّ الرجل يمثل نموذج الزّاهد المتصوّف، والشاعر والأديب المبدع، والكاتب الذي جعل من القلم سليلا للسيف، بالنظر إلى كم إنتاجه المحفوظ، وما كتب عنه من المتقدّمين والمتأخّرين في كثير البلدان كفيل بأن يجعل منه مكتبة تحمل اسمه بكلّ استحقاق.
أما شهرته وذيوع صيته والتقدير، الذي افتكّه وحظي به من جانب عدد من الحكام والملوك والأباطرة في العالم، فهو يكشف الوجه الآخر للأمير عبد القادر، بالصورة الأعمق عن بعده الإنساني، الذي ما انفك يتبنّى ويدافع باستماتة عن قضية وطنية وإنسانية آمن بها وعمل بإخلاص في سبيل خدمتها.
النهضة العربية والغرب..
عبّر الأمير عبد القادر، بصدق عن موقف الشعب الجزائري الرافض للهيمنة الأجنبية، كما استجاب لتطلّعاته في إنشاء دولة حديثة في إطار قيمه العربية ومبادئه الإسلامية.
فكان ابن بيئته ونتاج ثقافته الأصيلة ولسان عصره. وهذا يتطلّب في ظروف عصرنا وحاجات مجتمعاتنا، من الدارسين لملحمته والباحثين في تراثه والمهتمين بإنجازاته، تجاوز حياته الخاصة وعدم الاكتفاء بتسجيل تقريري ووصفي لأعماله الفردية وبطولاته الجهادية، إلى محاولة التعرف عليه بنظرة جديدة، وذلك من خلال رسم ملامح العصر، الذي عاشه وتأثر به وأثر فيه بأبعاده الدولية الأوروبية منها والعثمانية، وبخصوصيته الجزائرية، وربط كلّ ذلك بالخصائص التي ميزت أعماله والصفات التي طبعت شخصيته.
عاصر الأمير عبد القادر، كثيرا من أقطاب الفكر العربي الحديث، لكنه أسّس لنفسه كينونة خاصة بارزة تعبّر عن وجوده المتميز بين أولئك الأقطاب.. إنّ ما تميّز به عن أقرانه من المفكّرين العرب المسلمين، هو أنّ فكره التنظيمي التأسيسي كان إبداعا ذاتيا، لأنّه لم يحتك بالغرب الأوروبي ولم يتأثر به، وإنّما كان يدافع عن إثبات كيانه وهويته.
وما قام به يضاهي التنظيمات، التي كانت في الغرب والتي كان يدعو إليها مفكّرو النهضة العربية، سواء على مستوى التنظير أو الممارسة. وهذه خصوصية لابد من التركيز عليها في حياته.
ولا يعني ذلك أنّه كان يجهل صور الحضارة الغربية وما وصلت إليه علميا وسياسيا، إذ أنّه في الواقع كان على دراية بها وكان يشيد ببعض مظاهرها، وينتقد في الوقت نفسه أوضاع العرب. الذين لم يسايروا تلك الحضارة، وتلك روح علمية موضوعية كانت تميز شخصيته.
كان الأمير عبد القادر، يرى أنّ الدولة دولة مؤسّسات وقانون، لا دولة قبائل وعشائر وتجمّعات تعود ثقافتها السياسية للعصور الوسطى والقديمة، وتزول بزوال السبب الذي قامت لأجله.
وهذا ما يتفق تمام الاتفاق والمفهوم الحديث للدولة، فهي الذروة التي تتوّج البنيان الاجتماعي المستجد، وتكمن طبيعتها التي تتفرد بها في سيادتها على جميع أشكال التجمّعات الأخرى، بشعب مستقر على إقليم معين وخاضع لسلطة سياسية معينة.
وهذه نظرة يتفق عليها أكثر الفقهاء؛ لأنّها تحتوي العناصر الرئيسة التي لا بد لقيام أيّ دولة منها، وهي الشعب والإقليم والسلطة. فالدولة التي أقامها الأمير كانت تضاهي الدول المعاصرة لها في الحداثة، وخصوصا في الغرب، نظرا لما اشتملت عليه من مؤسّسات تنظيمية وآليات تحديثية متمثلة في الديمقراطية والعدل والمساواة، والشورى، والبيعة.
واستطاعت بذلك أن تتجاوز الموروث السياسي للدولة العثمانية، التي كانت تحكم آنذاك الوطن الجزائري وأغلب مناطق العالم العربي، فكانت دولته كما يقول عبد الباقي الهرماسي، أكثر تمركزا وتحركا وقوّة، وذلك ما لم تكن عليه يوما دولة العثمانيين.
فالدولة القوية الحديثة المركزية، التي بناها لم تكن تلك التي تتميز بالقوة القهرية الاستبدادية المهولة التي تمارس القهر والاستبداد على رعاياها، بما تفرضه عليهم من ضرائب مثقلة لتلبية حاجياتها لا واجبا عليها إزاءهم، بل إنّها الدولة التي تمتلك تنظيمات وتشريعات للممارسة السياسية، أيّ أنّها عبارة عن أجهزة وأدوات وآليات للعمل السياسي والاجتماعي، ولها من الوظائف وعليها من الواجبات أكثر ممّا لها من الحقوق.
فالأمير عبد القادر، لم يمارس في دولته الوطنية الدولة القهرية الاستبدادية التي ميزت الدولة العربية الإسلامية فترة زمنية طويلة، وإنما دولته وجّه فيها جيشه للخارج لمحاربة العدو أكثر ممّا وجّه للداخل، وموّل دولته بالضرائب التي فرضتها الشريعة الإسلامية فقط، وبتلك الممارسات نجح الأمير عبد القادر في بضع سنوات في تأسيس دولة وطنية قوية، كانت بحقّ ثورة في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي.
إنّ الدولة القهرية الاستبدادية من وجهة نظر الأمير عبد القادر، ليست الدولة التي تمارس الاستبداد فحسب، بل حتى التي يصل فيها الحاكم إلى الحكم عن طريق القوة، وذلك ما أدركه الأمير عبد القادر، حين قال: “إنّ أهل ناحيتنا هذه اتفقوا أشرافا وعلماء، وأهل الحل والعقد على ولايتنا وملازمة بيعتنا، وقد ارتضينا ذلك موافقة للوالد، إذ كان هو المطلوب بها، ففرّ منها وألزمنا إيّاها”.
أيّ أنّه كان بعد الدولة الفعلية والقوية هي التي يصل فيها الحاكم إلى الحكم برضا الشعب عليه وانتخابه أو مبايعته، فقد أدرك أنّ المفهوم السياسي المتداول في الممارسات الحديثة هو الانتخاب.
لذلك أراد أن يكيف المفاهيم الإسلامية المتداولة في الممارسة السياسية الإسلامية بالمفاهيم السياسية الناشئة؛ لأنّ هذا المبدأ الانتخابي هو الذي أحدث القوة والتقدم بالنسبة للدول الحديثة؛ لذلك كان الأمير عبد القادر حريصا على الامتثال له.
وقد استخدم لفظ “انتخبوني” في وصوله إلى السلطة ولم يستخدم لفظ “أمّروني” الذي كان من أهم المفاهيم المتداولة في الفكر السياسي العربي الإسلامي على مستوى الممارسة.
وكانت ممارسة السلطة السياسية عند الأمير عبد القادر، تسير بصورة جماعية، حيث كان يشاركه فيها من هم مؤهّلون للمشاركة، وهم عنده أهل العلم فقط. وكان يبعد من حوله غير المؤهّلين الذين كانوا نافذين في تسيير الدولة العثمانية وهم الأجواد، حيث كان يقول: «كنت دوما أتحاشى استعمال الجوادة (الأجواد) أستعين بالعلماء وأهل الدين في تسيير الحكم.
وكان الأمير عبد القادر ،هذا يميز بين نوعين من حملة المعرفة والعلم العلماء الذين يحملون المعارف العقلية والعلمية، والعلماء الذين يحملون المعارف الشرعية الدينية، وكلاهما ضروري وجوده والاستعانة به في تسيير شؤون الدولة.
وممّا لا ريب فيه أنّ التاريخ يذكر بإكبار وجدارة هذا الرجل ضمن من تسنّموا قمم الإنجاز مقابل قلّة إمكاناتهم، بفكرهم الوقّاد، فكانوا بحقّ رجالات دولة وأصحاب رؤى.
وقد قيل بأنّ لكلّ زمان دولة ورجال، فعبر واقع التاريخ السياسي، ورغم تعدّد المفاهيم وتنوّعها، نجد أنّ الإرهاصات الأولى للدولة الجزائرية الحديثة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه الحقبة من ماضيها، وأنّ الأمير عبد القادر يعدّ واحدا من كبار رجال الدولة الجزائريين في التاريخ المعاصر، بل يعدّ مؤسّس الدولة الجزائرية الحديثة ورائد مقاومتها ضدّ الاستعمار الفرنسي بين 1832 و1847.
لقد استطاع الأمير عبد القادر، تجاوز الممارسات السياسية التي حدثت في العالم العربي الإسلامي في عصر النهضة أو قبله، ومردّ ذلك إلى وعيه الشخصي النابع من محيطه وواقعه، لأنه لم يكتب له أن سافر كغيره من العرب إلى الغرب، ولم يقم بأوروبا ولم يتأثر بها، ومن ثمّ فإنّ ما قام به كان يتم عن إدراك فكري عميق يعبر عن ملاحظاته ومعاناته ومعاناة مجتمعه.
ولذلك فإنّ محور تفكيره لم يكن منطلقا لا من الآخر ولا من واقعه. وإنما كان منطلقا ذاتيا، يعبر عن ذات استطاعت أن تدرك ما هي عليه وما هو واقع الأمة التي تعيش فيها تلك الذات.
وعمل جاهدا على تجاوز ذلك الواقع بإعادة مجد الأمة، قاصدا من وراء ذلك إلى تفنيد وإبطال كلّ الادّعاءات والمزاعم التي كانت تشير إلى أنّ الأمة الجزائرية عاجزة عجزا فطريا عن تكوين دولة.
لقد أدرك الأمير عبد القادر الجزائري، منذ البداية أنّ مواجهة المحتلين لن تتم إلا بإحداث جيش نظامي مداوم تحت نفقة الدولة، من أجل ذلك أصدر بلاغا إلى المواطنين باسمه يستقضي به ضرورة تجنيد الأجناد وتنظيم العساكر في البلاد كافة.
فاستجاب له الجزائريون، والتفت الجموع حوله بالطاعة، واستطاع أن يكوّن منهم جيشا نظاميا سرعان ما تكيف مع الظروف السائدة وأحرز انتصارات عسكرية عديدة، أهمها معركة المقطع التي أطاحت بالجنرال (تريزيل) وصاحبه الحاكم العام من منصبيهما”.
أما سياسيا، فقد افتك من العدو الاعتراف به، والتعامل معه من موقع سيادة باعتماد معاهدتي (ديميشال) في 26 فيفري 1834 و(التافنة) في 30 ماي 1837.
في هذه الفترة بالذات، وبعد أن استقر له الوضع بعض الوقت، عمل الأمير على توحيد صف القبائل حول مسألة الجهاد، وبسط نفوذه على أغلب مناطق القطر الجزائري واتخذ من مدينة (معسكر) عاصمة له، ثم شرع في تنظيم المقاومة، فاسترجع ميناء (أرزيو).
وشرع في تنظيم الجيش ووضعه في مصاف الجيوش المعاصرة له في الدول العظمى، فقسّمه إلى ثلاث فرق في المشاة والخيالة والمدفعية، وأصدر القوانين العسكرية التي يجب على الجندي التمسّك بها ووضع سلّم التسلسل العسكري التالي:
– جاویش رقيب القيادة 12 جنديا
– رئيس الصف القيادة 20 جنديا
– السياف 100 جندي
– الآغا القيادة 1000 جندي
أقرّ الأمير، منح الأوسمة لمستحقّيها من الشجعان، وقسّمت الوحدات الأساسية في الجيش النظامي إلى كتائب تضم كلّ كتيبة مائة جندي، فأما الوحدة الأساسية في الفرسان فكانت تضم خمسين رجلا، وبقي المدفع يمثل وحدة الرمي الرئيسة ويبلغ طاقمه 12 جنديا.
وعن الصعوبات، التي واجهته في اتخاذ هذه التدابير وعن الطرق التي انتهجها القصد التغلب عليها، يقول الأمير عبد القادر: إنّ تجنيد جيش نظامي من شعب لم يعرف التجنيد الإجباري حتى أيام الحكم التركي، هو تجربة خطيرة تحتاج إلى حنكة وحذر كبير، لا سيما ما عرف عن هذا الشعب من الاستعداد للثورة بمجرد طرح فكرة التجنيد الإجباري.
لهذا كان من المحال الإعلان عن خطة من هذا النوع صراحة، فتم توجيه الدعوة بالتلميح والعرض على المدن والقرى.
ولقد نجح الأمير في تسليح جند جيشه النظامي كلّهم بالبنادق الفرنسية والانجليزية التي حصل عليها، إما عن طريق الغنائم أو من الجنود الفرنسيين الفارين أو عن طريق شرائها. كما دعا كلّ من كان يمتلك بندقية فرنسية أن يبيعها للدولة ثم عليه أن يشتري لنفسه بندقية محلية الصنع سواء من الأسواق أو من قبائل الصحراء.
أيقن الأمير، لزوم الاعتماد في التسليح على القدرة الذاتية للبلاد، فأقام المصانع التي شرعت تنتج بإتقان ما يحتاجه الجيش من العتاد الحربي، ففي تلمسان أقيم مصنع لصهر المدافع كان ينتج يوميا اثني عشر مدفعا.
وفي مليانة أنشأ مصنع للبنادق ينتج ثماني بندقيات يوميا، ومصنع ثان لإنتاج البارود وكان يؤتى بالحديد من منجم المدية، في حين كانت مناجم ملح البارود والكبريت والحديد والنحاس بتلمسان ومعسكر ومليانة والمدية وتاقدامت.
إضافة إلى ذلك، فتح الأمير منجما للرصاص بجبل (الونشريس) وحرص على حفظ الذخائر في مخازن الدولة وعدم توزيعها إلا بكميات محدودة خوفا من الإسراف في تبديدها”.
وعندما أيقن باستشرافه الاستراتيجي الثاقب أن مدنا مثل معسكر وتلمسان سوف تقع لا محالة في قبضة الفرنسيين، عمل على إقامة مراكز للاستيطان تكون بعيدة عن مسكة المحتلين، فاختار لها رسم التل مقرا فكانت مدن سبدو (جنوب تلمسان وسعيدة وتاقدامت (جنوب معسكر) وبوغار (جنوب مليانة)، وبسكرة (جنوب قسنطينة).
ويجدر الذكر أنّ الأمير أراد أن يجعل من (تاقدامت) قاعدة صلبة للدولة المحاربة، لا مجرد قلعة حربية، فأنشأ بها مدرسة وأقام مكتبة أحضر لها الكتب من كلّ أنحاء العالم العربي والإسلامي، كما أقام دارا لصكّ النقود الفضية والنحاسية، إلى جانب ذلك، أقيمت مصانع النسيج”.
ولقد كانت معاهدة “التافنة” ثمرة تدابير سياسية حكيمة؛ إذ يعدها محلّلو التاريخ السياسي انتصاراً للدبلوماسية الجزائرية على العدو المحتل، ما برح الأمير عبد القادر، عن طريقها، يبني معالم دولة جزائرية ويشيد لها الأركان كي يؤمن لها سيادة وكيانا سيفرضان وجودهما في وجه أعتى قوّة استعمارية عرفتها العصور الحديثة،.
ولمدّة 17 سنة، عرف الأمير، كيف يقرر وكيف يستشعر نتائج قراراته حتى أنّ ألدّ أعدائه، وهو الماريشال بيجو (Bugrand) – قال عنه: أتعرفون أين تكمن قوّة عبد القادر، إنّها في عدم إمكان العثور عليه إنّها في فسحة الأرض. إنّها في حرارة شمس إفريقيا. إنّها في انعدام الماء، إنّها في حياة الترحل بين العرب.
عكف الأمير عبد القادر على إصلاح حال بلاده، ينظم شؤونها ويعمرها ويطورها ويرمم ما أحدثته المعارك بالحصون والقلاع من ضرر، ثم التفت إلى تنظيم مؤسّسات الدولة عبر إحداث ترتيبات رسمية على المستويين الإداري والسياسي تتمثل في الإجراءات التالية:
تشکیل مجلس وزاري مصغّر ينتظم كما يلي: رئيس الوزراء – نائب الرئيس – وزير الخارجية، وزير خزانة الدولة، وزير الخزينة الخاصة، وزير الأوقاف، وزير الأعشار والزكاة، ثم الوزراء الكتبة وهم ثلاثة حسب الحاجة، واتخذت هذه الوزارات من مدينة معسكر عاصمة لها.
تأسيس مجلس الشورى الأميري، يتكوّن من 11 عضوا كلّهم من العلماء يمثلون المناطق المختلفة ويقعون تحت رئاسة القاضي أحمد بن الهاشمي.
تقسيم إداري للبلاد إلى ولايات يدير كلّ ولاية خليفة. وقسم الولاية إلى عدة دوائر ووضع على رأس كلّ دائرة قائدا يدعى برتبة آغا، وتضم الدائرة عددا من القبائل يحكمها قائد، ويتبع القائد مسؤول إداري يحمل لقب شيخ.
تنظيم الميزانية وفق مبدأ الزكاة وفرض ضرائب إضافية لتغطية نفقات الجهاد وتدعيم مدارس التعليم.
تدعيم القوة العسكرية بإقامة ورشات للأسلحة والذخيرة وبناء الحصون على مشارف الصحراء حتى يزيد من فاعلية جيشه.
تصميم علم وطني وشعار رسمي للدولة، وربط علاقات دبلوماسية مع بعض الدول.
ولم يمض أكثر من سنوات قليلة حتى أصبحت الجزائر دولة اتحادية تضم ثماني مقاطعات على رأس كلّ مقاطعة خليفة مهمته الرئيسية المحافظة على طاعة الأجهزة الاجتماعية والإدارية المختلفة، وتحقيق الوحدة الضرورية لمواصلة الدفاع عن الوطن.
فكان على رأس تلمسان مثلا القائد بوحميدي وبها 13 ألف مقاتل، وعلى رأس معسكر القائد التهامي وبها 15 ألف مقاتل. ولما حوت سلطة الأمير منطقة ما وراء وادي الشلف جعل (مليانة) مقاطعة ثالثة وبها 10.440 مقاتلا. وكان لكلّ من هذه المقاطعات الثلاث مرسی خاص بها.
فكان لتلمسان مرفأ أرشقول وكان لمعسكر مرفأ أرزيو وأما مليانة فكان لها مرسى شرشال، أما الجنوب الصحراوي فكانت به مقاطعتان أولاهما في الزيبان والثانية في الصحراء الغربية التي يوجد بها 8 آلاف مجاهد، ففي المجموع كانت هناك ثماني مقاطعات تضم ما يزيد عن 59 ألف مقاتل منهم قرابة الـ6 آلاف جندي منظم، الشيء الذي يوضح الدور التنظيمي الهام الذي اضطلعت به حكومة الأمير عبد القادر الجزائري.
نفهم ممّا سبق أنّ الأمير عبد القادر أدرك منذ توليه حكم بلاده المفهوم البنيوي للدولة، ووعى مدى ارتباطه بالرجال والمؤسّسات، فرأى من الضروري أن يؤسّس أجهزة نظامية دائمة يتولى شأنها أناس لهم خبرات عالية بتصريف شؤون الدولة، وتتوفر لديهم المعرفة العميقة والواعية بأمور المجتمع والإدراك الملامس لمتطلّباته المختلفة، فكان محور اهتمامه بناء فكر متوازن وإرساء تشريعات ناظمة تسعى للنهوض بالمجتمع وإشباع حاجته إلى الأمن والغذاء والحرية.
إسهامات الأمير في الممارسة السياسية الحديثة
قامت النهضة الحديثة أساسا على التنظيم السياسي للدولة، فكانت كلّ الدعوات العربية في بداية النهضة تتجه إليها في شكل مجموعات من القواعد الفكرية والتنظيمية، سواء بالتركيز على ما كانت عليه حضارتهم في غابر الأزمان، أو ما هي عليه الحضارة الغربية في عصرهم.
غير أنّ كثيرا من تلك الدعوات في الفكر السياسي العربي، سواء على مستوى التنظير أو على مستوى الممارسة، لم يكتب لها النجاح، ونحن نعتقد أنّ ذلك يرجع إلى أنّ القواعد الفكرية التي تبنّوها لم تعبّر عن واقعهم العربي الإسلامي، بقدر ما عبرت عن واقع المجتمعات الغربية، كما أنّها لم ترق إلى مستوى التنظيم الشامل الحياة مجتمعاتهم.
أما الأمير عبد القادر، فقد نجح في تنظيماته، كما بينا سلفا؛ لأنّ فكره نبع من واقع ذاتي بخصوصية متميزة عن الواقع الغربي، وكانت تلك هي عبقريته المتميزة التي استهدفت دفع مجتمعه إلى النهضة والتقدم وفق تلك الخصوصية، وعلى ذلك يمكننا القول – دون تحيز – إنّه الوحيد في القرن التاسع عشر الذي استطاع أن يجسّد مبادئه الفكرية على مستوى الدولة التي أقامها فكرا وممارسة.
وكانت ممارساته – بالتالي – في ذلك العصر من أهم ما أنجزه العقل السياسي العربي الإسلامي، خلافا لما كان متعارفا عليه في الفكر السياسي العربي السابق، وذلك لأنّه أحدث قفزة نوعية متميزة في الفكر وفي الممارسة، وليس كما يدّعى البعض الذين يقولون إنّه “بقى مطوّقا بملابسات الفكر العربي الإسلامي السابق”.
ويمكننا ملاحظة إسهامات الأمير عبد القادر في الممارسة السياسية الحديثة عبر عنصرين اثنين..
الوطن والوطنية
كانت مسألة الوطن والوطنية من أهم المبادئ التي تأسّست عليهما الدول الحديثة باعتبارهما معيارين لكلّ نهضة سياسية حديثة، حيث أصبحت معانيهما وممارستهما مغايرة لما كان يعرفان به، وهذه المسألة لم تكن غائبة عن رجل حمل لواء نهضة مجتمعه وأمته.
وإن لم يكن يختلف فيها كثيرا عما ذهب إليه ابن خلدون في دراسته لتركيبة المجتمع العربي الإسلامي البدوية والحضرية، وغيره من المفكرين العرب المسلمين، فالأمير عبد القادر استخدم كلمة الوطن مرارا. والوطن بالمفهوم السياسي الحديث، ليس مجرد مكان للسكن، ولا أرضا بدون سكان.
فالوطن بلا سكان لا معنى له، والسكان بلا انتماء ولا شعور ولا مدافعة عن الوطن لا بقاء لهم. وقد أدرك الأمير عبد القادر تلك الخصوصية الحديثة التي أصبحت تميز الإنسان العربي الحديث على مستوى الهوية الذي يجب عليه أن يجسّدها فعليا، فالإنسان العربي إن كان في السابق يفتخر بانتسابه إلى قومه وقبيلته، فإنّه أضحى في الواقع وفي المفهوم الحديث ينتسب إلى وطنه، مكان سكناه أكثر ممّا ينتسب إلى قومه.
هذه مستلزمات السيرورة الاجتماعية، التي تبعث التغير الحاصل في تركيبة المجتمع العربي الإسلامي، ويجب مسايرتها والحياة وفقها، فالانتساب إلى القبيلة لم يعد نموذجا لتركيبة المجتمع الحديث ولا الدولة الحديثة. وليس صفة للمواطنة، وإنما المواطنة أصبحت تتحد على من ينتمي للوطن (مكان السكن) مهما كان جنسه ومهما كانت قبيلته.
وهذا ما أدّى بكثير من الناس في العصر الحديث إلى التباهي والتفاخر بانتسابهم إلى أوطانهم لا بالانتساب إلى أعراقهم، فأصبح كلّ واحد يمتدح وطنه للخصوصية التي يتميز بها: “فنجد هذا يمدح أرضه بكثرة المياه للاتساع بالشرب والطهارة والنقاوة ونحو ذلك، وهذا يمدح أرضه بالبعد عن المياه كجود منابتها وصحة هوائها وذهاب الوخم منها، وهذا يمدح أرضه بالسهولة وجودة المزارع فيها، وكثرة ربيعها واتساع خيرها، وهذا يمدح أرضه لكونها جبالا لتمتعها وعزّة أهلها وحسن مائها وهوائها وقناعتها وغير ذلك”.
إنّ الوطنية، التي ينادي بها الأمير عبد القادر، والتي كانت ميزة الفكر السياسي الحديث هي التي تتحدّد فيها العلاقات الاجتماعية من تعاون ومحبة على أساس الحياة المشتركة في الوطن الواحد، لا على أساس التفاضل الجنسي والعرقي. وبهذه الممارسة والرؤية والمفهوم.
استطاع الأمير أن يؤلف بين سكان الجزائر، ويحملهم على لواء المقاومة المشتركة للدفاع عن وطنهم وهذه قمة الوطنية في مفهومها الحديث والمعاصر، وهي مخالفة للمفهوم الأوربي الحديث الذي يرى أنّ الوطنية هي التي نجحت في تكوين كيان سياسي وحكومة مستقلة. والوطنية التي كان يدعو إليها الأمير عبد القادر ليس المقصود منها هو فصل الجزائر عن سياقها الحضاري العربي الإسلامي، وبذلك كان الأمير عبد القادر أول دعاة الوحدة العربية.
العدل والمساواة
ما كاد الأمير يفرغ من تنظيم أجهزة الدولة حتى أرسل إلى عمال الوجود التركي ممّن ما يزالون في مناطق لم يغتصبها الاستعمار الفرنسي بعد، طالبا إليهم الطاعة. فاستجاب كثيرهم وأعلنوا مبايعته، في حين امتنع عن ذلك عدد منهم منتهزين ظروف التبلبل الذي انتشر في البلاد على إثر الاحتلال.
فسارع عبد القادر إلى إقناعهم سواء بالمنطق أو القوة. ثم عين في مناصبهم رجالا توفرت لهم الكفاءة والعدل والإخلاص. وبذلك استتبّت الأمور، وسعى الجميع نحو إرساء قواعد الحكم النزيه على قواعد مكينة قوامها ضوابط الدين الإسلامي. فكان الشعار “اجعل الرحمة تاج العدالة والحزم بديلاً عن التردّد والتأنّي بديلا عن التسرّع، والحكمة بديلاً عن التهوّر، والعقل بديلاً عن الحماقة”.
لعلّ هذا متأتّ من ربط الأمير بين فكرته في شمول الرحمة لجميع الخلق بنظريته في الأسماء الإلهية وتقابلها، وغلبة أسماء الجمال للأسماء الجلال فيقول: «من أراد أن ينظر إلى تبشير الحق تعالى عباده بسعة رحمته وإخبارهم تلويحا بل تصريحا لمن عقل بعموم عفوه وشمول رحمته فلينظر فيما جعله الله فاتحة لكلامه، والحمد هو الثناء على المحمود بصفاته الجميلة وليست إلا صفات الجمال كالحلم والعفو والستر والرحمة والكرم والإحسان لا صفات الجلال كالانتقام وشدّة البطش والغضب، فإنّ الحمد من كونها صفات کمال.
وكان أول عمل قامت به الحكومة، هو الإعلان عن إلغاء المظالم وإبطال القوانين التي كانت تفرض على المواطنين الجزائريين بين ضرائب ثقيلة ومغارم مرهقة، واستبدل نظام الحكم بنظام بسيط يؤمن السرعة في التنفيذ ويمنح أعضاء الحكومة سلطات واسعةـ مع الحرص، في الوقت نفسه، على مراقبة ممارساتهم. كما كانت الرقابة الشعبية مرعية بصورة واسعة، حيث يبعث بأشخاص للأسواق داعين الناس لممارسة هذا الحق.
وامتدت هذه الإصلاحات إلى تشكيل شرطة خاصة وزّعت في شوارع المدن وأحيائها، بل وحتى في معسكرات الجيش المتنقلة. وقد أطلق على أفرادها اسم “شاوش”. وكان سلاحهم الوحيد عصى بسيطة تستخدم عند الضرورة لمعاقبة المجرمين أو إحباط أيّ محاولة لزعزعة استقرار النظام العام.
ولن نمتنع عن القول بأنّ هذه الشرطة، على الرغم من عدد أفرادها القليل، وبساطة تجهيزاتها، أثارت إعجاب الأجانب حتى أنّ أحد الإنجليز ممّن زاروا البلاد في ذلك العهد وهو العقيد سكوت قال : “إنّ البيان الذي أدلى به الأمير عبد القادر عام 1838، والذي قال فيه إنّه من الممكن للإنسان أن يسافر في أيّ جزء من إمارته وهو يحمل على ظهره كيسا من الذهب دون أن يتعرّض لسرقة أو اعتداء، هو بيان صادق تماما وحقيقي”، أو كما قال أحد المؤرخين الفرنسيين: يستطيع الطفل أن يطوف ملكه منفردًا، على رأسه تاج من ذهب، دون أن يصيبه أذى.
شعيب مقنونيف جامعة تلمسان