الرايس حميدو بن علي من ألمع الشخصيات الفذة والأعلام البارزة التي ظهرت على رأس قيادة الأساطيل الحربية في عهد الأتراك بالجزائر، لا يزال صدى إسمه يرن في الأذان وشعاع مهابته يتألق دوما في سماء مجد البطولة البحرية كرمز للشجاعة والإقدام، ولا يزال أهل الجزائر يطلقون إسمه على أبنائهم تخليدا لذكراه وتعظيما لشأنه.
وقد وصفه إسماعيل سرهنك باشا في كتابه حقائق الأخبار عن دول البحار بأنه كان على جانب من الجرأة والإقدام، حتى أن كثيرا من العائلات الإسبانية كانت تخوف أولادها بذكره.
ولد الرئيس حميدو مثلما كان يسميه الملاحون العرب أو حميدو قبودان أي القبطان حميدو كما كان يدعونه الملاحون الأتراك بالجزائر حوالي سنة 1178 ه/1765م، يرجع نسبه إلى أسرة جزائرية منحدرة من أصل أندلسي ولا نعرف من أسماء أسرته إلا إسم والده علي فقط.
أخذه والده في صغره لتعلم مهنة الخياطة والطرز، فحمله إلى معلم ليثقفه هذه الصنعة، إلا أن طموح الغلام حميدو كان تصدر مصاف الأبطال من رجال المغامرات البحرية وقادة الأساطيل، واختار الإندماج ما بين صفوف رجال البحرية رواد البحار والمحيطات وهو حينئذ لم يتجاوز السنة العاشرة من عمره.
وهكذا استمر حميدو يعمل حسب ما تسمح له الفرص على الإتصال برؤساء المراكب وقادة الأساطيل وربانية السفن إلى أن تمكن له الإنضمام إلى أعضاء مركب كان هناك راسيا بالساحل الوهراني، فإشتغل معهم وما كاد يمر عليه بضعة أيام حتى ظهرت عليه النبوغ فتفوق على زملائه ببراعته وصرامته، واشتهر إسمه بين الأوساط المعنية بخوض غمار البحار، وأصبح مغامرا يتقدم إلى الوقائع الحربية من غير أن يستشعر رعبا أو خشية واشتهر بأعماله البطولية المتعددة فنال رتبة ضابط بحري، ثم ارتقى إلى رتبة قبودان أو رايس.
بدأ الرايس حميدو مغامرته وكفاحه في البحر بقيادة ثلاث سفن صغيرة كانت راسية بوهران، وكان ذلك بتشجيع من حاكمها ، فراح يتصدى سفن الدول الأوروبية المعادية التي كانت تجوب البحر المتوسط فخرج منتقما لتلك الحملات التي كانت تشنها عليها تلك الدول، ولتحرير ما قد يجده هنالك من الأسرى المسلمين المستعبدين الذين كانوا يرغمون على التجذيف والعمل الشاق تحت ضربات السياط، ثم يعود إلى الشاطئ الإفريقي محملا بالغنائم الوفيرة وإنقاذ الأسرى.
بلغ نبأه إلى داي الجزائر حسن بن حسين، فأعجب بأعماله البطولية واستدعاه إلى ديوانه فأدناه منه وأسند إليه رئاسة مركب هو من المراكب الضخمة الكبيرة المعروفة بإسم “الشبك”، يحمل 12 مدفعا و60 شخصا تاركا له الحرية المطلقة في إرتياد أي ناحية شاء من نواحي البحار، وبينما كان ذات يوم يجول بأسطوله في البحر ارتطم أحد مراكبه بصخرة فعطبته، وهو المركب الذي منحه إياه الباشا فغضب الداي، ولكن حميدو عرف كيف يجدد حبل المودة، فعقد غزوة ثانية توجه فيها نحو مياه بلاد البرتغال أشد الدول عداوة للبلاد الإسلامية في ذلك الحين.
وفي إحدى معاركه هناك إستطاع أن يستولي على سفينة حربية تابعة لها تحمل 44 مدفعا فضمها إلى أسطوله وأطلق عليها اسم البرتغالية فأنبسط لها الداي ومن حوله ، وكان من أهم المعارك الموفقة التي خاضها الرئيس حميدو وساعدت على ذيوع شهرته تلك المعركة التي نشبت بينه وبين بعض السفن الأمريكية في سنة 1793، واستطاع أن يستولي في نهايتها على إحدى تلك السفن بما عليها من الغنائم والأسرى.
كان الباعث القوي في هذه المرة على تصدى حميدو للسفن الأمريكية هو إرغام الولايات المتحدة الأمريكية على الإعتراف بسيادة الدولة الجزائرية على الجزء الجنوبي من البحر المتوسط وتسديد الإتاوة التي كانت تسددها تلك الدول كمظهر من مظاهر ذلك الإعتراف وفقا للتقاليد التي كانت متبعة في ذلك العهد، وكان هذا الحادث من بين الأحداث التي دفعت بالكونغرس الأمريكي سنة 1794 إلى إتخاذ قرار بإنشاء أسطول حربي لحماية السفن التجارية الأمريكية.
وبعد انشاء ذلك الأسطول قامت أمريكا بمهاجمة الشواطئ الليبية سنة 1796، إلا أن حملاتها هذه باءت بالفشل واستطاع المجاهدين البحريون من الليبيين أن يثأروا لبلادهم، وأن يغنموا سفينتين أمريكيتين بما فيهما من الملاحين والمؤن والعتاد.
وأخيرا أضطرت أمريكا إلى التقرب من الحكومة الجزائرية، فوقعت معها معاهدة تعهدت بموجبها أن تدفع مبلغ 642 ألف دولار دفعة واحدة مضافة إلى ما قيمته 121 ألف دولار من المعدات الحربية سنويا مع الإعتراف بالسيادة الجزائرية على هذه المنطقة من البحر المتوسط في مقابل إطلاق سراح الأسرى الأمريكيين، وضمان عدم تعرض السفن الجزائرية للسفن الأمريكية فيما بعد، والتوسط لدى الدول الإسلامية المجاورة لإقناع المجاهدين البحريين التابعين لها بعدم التعرض لها أيضا.
وأعرب داي الجزائر حسن باشا ببطولة الرايس حميدو فمنحه سفينتين كبيرتين وشجعه على الإستمرار في غزواته البحرية لسفن الدول المعادية، إلا أن التوفيق لم يحالفه في مغامرته هذه المرة، حيث تسلطت على مراكبه عواصف وزوابع طبيعية فأغرقته ونجا حميدو بمعجزة، فاضطر إلى الإعتكاف في مدينة قسنطينة إلى سنة 1800، فاستدعاه الداي مصطفى باشا إلى العاصمة، وأثار حميته الإسلامية ونخوته العربية ، وحثه على مواصلة كفاحه البحري.
فهب على الفور وشرع في الحصول على سفن جديدة وفتح باب التطوع للراغبين في الجهاد، فإلتف حوله المئات من الجنود والملاحيين الخبيرين بفنون الملاحة والمعارك البحرية، وكان فيهم كثير من ضحايا الغزوات التي كانت تشنها الأساطيل الأوروبية على سفن المسلمين، ومنهم من ذاق مرارة الأسر وبات يتحين ساعة الثأر.
لما أتم حميدو تجهيز الأسطول ونشر عليه رايته التي كانت تمتاز برسم صورة فرس عليها، انطلق بين أصوات التهليل والتكبير، ودعوات المشيعين بالنصر والتأييد مبحرا صوب الشمال. خاض حميدو ورجاله بعد ذلك عدة معارك موفقة ضد الإنكليز والإيطاليين، وغيرهم وكان يعتمد في حروبه بما أوتية من شجاعة وبطولة ، وإعتمد على عناصر الجرأة والمفاجأة من غير إهمال العناصر الأساسية في الحرب من توفر الإمكانيات وأسباب القوة.
لقد نجحت غزواته المتتابعة مع غزوات الجماعات الأخرى المماثلة من المجاهدين البحريين في كف أذى الأساطيل الأوروبية عن السفن الإسلامية مطبقا للقاعدة المعروفة “الهجوم خير وسيلة للدفاع”، وعملا بهذه القاعدة احتجزت عدة سفن معادية كانت تحمل أصنافا من البضائع والسلع وما عليها من الأسرى.