مدفع نحاسي عملاق يعرف بمدفع بابا مرزوق جزء من ذاكراتنا المنهوبة لم يكن يتجاوز عمره عندما سُرق 288 عاما قضاها في الدفاع عن الجزائر، لكنه أسر وأخذ إلى فرنسا.
يبلغ طوله سبعة أمتار بإمكانه إصابة الهدف على بُعد قد يزيد عن 4 كم ويشرف على خدمته أربعة رجال مدفعية أقوياء. فما قصة هذا المدفع؟.
أسير “بريست”
أسير مدينة “بريست” الساحلية الذي ترفض السلطات الفرنسية إعادته إلى موطنه الأصلي بعد أن غيروا إسمه من “مدفع بابا مرزوق” إلى “المدفع القنصلي” La Consulaire نسبة إلى قنصل فرنسا الأب جون لوفاشي Jean Le Vacher (1676-1683) الذي راح ضحية عناد الأميرال “دوكان الذي شرع في قنبلة مدينة الجزائر مساء 26 أوت 1682.
أطلق الاميرال على مدينة الجزائر 84 قنبلة ثم أطلق عليها ليلة 30 الى31 أوت 114 قنبلة واستمر إطلاق القنابل إلى غاية 12 سبتمبر، ضاربا عرض الحائط كل الوسائل الدبلوماسية والأعراف الدولية في مفاوضاته مع داي الجزائر آنذاك بابا حسن (1682-1683) حول مسألة تبادل إطلاق سراح الأسرى.
وكان الأميرال دخل في جدال لا طائل منه مع الداي ثم قفل راجعا إلى بلده بعد أن رفض وساطة قنصل بلاده لحل المسألة العالقة بينه وبين داي الجزائر، ثم عاد إلى مهاجمة مدينة الجزائر مرة ثانية بعد انقضاء فصل الخريف.
وصل يوم 18 جوان 1683 فأرسل إلى الداي يطالبه بإطلاق سراح جميع الأسرى الفرنسيين وغيرهم من مختلف الجنسيات الذين أسروا من البواخر والسفن الفرنسية.
عندما لم يتلق الأميرال أي رد من الداي شرع في 26 جوان من السنة نفسها بإطلاق قنابل مدفعيته على سواحل مدينة الجزائر، ثم لجأ الطرفان إلى هدنة مدتها أربع وعشرون ساعة.
طلب خلالها الأميرال “دوكان” إطلاق سراح خمسمائة وخمسين أسيرا فرنسيا وتقديم مجموعة من الرياس كرهائن لدى فرنسا استلم الأسرى وبعض الرياس، منهم الرايس “حسين ميزومورتو” وكان يتمتع بقدر لا بأس به من الفطنة والذكاء.
أثار خضوع الداي بابا حسن لمشيئة الأميرال الفرنسي سخط كثير من الجزائريين وعلى رأسهم رياس البحر الذين أعلنوا عصيانهم للداي وبالتالي أطالوا مدة التفاوض بين الطرف الجزائري والفرنسي لتصل بعد خمسة عشر يوما إلى طريق مسدود.
أراد “ميزومورتو” استغلال الوضع وطلب من “دوكان” أن يطلق سراحه على أن يحقق في ساعة من الزمن ما عجز عن تحقيقه الداي خلال الخمسة عشر يوما التي انقضت.
أطلق سراح “ميزومورتو” الذي اجتمع بأنصاره من رياس البحر الذين قرروا اغتيال الداي بابا حسين وانتخاب مكانه حسين ميزومورتو، هذا الأخير تولى السلطة معلنا استمرار الحرب مع فرنسا وأرسل إلى “دوكان” في 22 جويلية يحذره من مغبة الإستمرار في الحرب وينصحه أن يجنب الأسرى المسيحيين الموجودين بالجزائر الميتة البشعة.
استمر الأميرال الفرنسي في قصف مدينة الجزائر فأصيبت مساجد ومباني فإندفع السكان إلى القنصلية الفرنسية وأخرجوا منها القنصل لوفاشي ومعه عشرين فرنسيا، وإقتادوهم جميعا إلى ميناء المدينة.
وضعوا القنصل على فوهة المدفع “بابا مرزوق” وقذفوا به في اتجاه أسطول الأميرال “دوكان” فتناثرت أشلاءه في الهواء وهكذا فعلوا بآخرين.
استمرت المعارك إلى غاية شهر أكتوبر دون أن يتوصل الفرنسيون إلى تحقيق أية نتيجة تذكر سوى أنهم تكبدوا خسائر جراء حملتهم الفاشلة بخمسة وعشرين مليون ليرة.
وفي 26 جوان 1688 أعلن الماريشال “ديستري” نائب أميرال فرنسا الحرب على مدينة الجزائر فأرسل إلى الداي “ميزومورتو” رسالة جاء فيها:
“إن الماريشال ديستري نائب أميرال فرنسا، يعلن لقوات مملكة الجزائر وميليشياتها إنه إذا تكررت خلال هذه الحرب الممارسات الفظيعة نفسها التي مورست ضد رعايا الإمبراطور سيده، فإنه سيستخدم الأسلوب نفسه مع رعايا الجزائر بدءا بالأكثر أهمية ممن بين يديه، وأنه تلقى الأمر بجلبهم معه لهذا الغرض في هذا التاسع والعشرين من جوان 1688”.
فرد الداي على ظهر هذه الرسالة:
“تقول إننا لو وضعنا المسيحيين في فوهة المدفع، فستضعون ذوينا تحت القنبلة، حسنا، إذا ما أطلقتم القنابل، سنضع ملككم في المدفع، وإذا ما سألت من الملك؟ فإنه القنصل ولن تعد نفسك قويا لأنك تطلق القنابل على السكان، فإن كنت قويا حقا فتعالى برا”.
بدأ القتال ضاريا بين الطرفين، وأطلقت عشرة ألاف قنبلة على مدينة الجزائر، وهدمت المساجد والبيوت ودمرت مجاري المياه ونجا السكان الذين تم إبعادهم عن مدفعيات البوارج الفرنسية، وكان مدفع “بابا مرزوق” قد أغرق الكثير من سفن الأعداء التي حاولت الإقتراب من رصيف الميناء.
المصدر: المتحف الوطني للمجاهد