يعتبر بيان أول نوفمبر1954 أهم وثائق الثورة التحريرية الجزائرية وقيمة تاريخية باعتباره عرّف بالثورة، وله دور بارز في إيجاد حلول سريعة وعملية للصراعات الداخلية التي عرفتها الحركة الوطنية قبيل اندلاع الثورة التحريرية .
تبرز أهمية وثيقة البيان باعتبارها مرجعية وقاعدة دستورية مكنت من وضع الأسس والمناهج أو التصور الذي تقوم عليه الدولة الجزائرية في عديد القيم والمبادئ ذات الطابع الحضاري والإنساني المستمد من الشريعة الإسلامية.
يعتبر بيان أول نوفمبر 1954 عهد وميثاق مكن الثورة من توجيه وتوحيد الشعب الجزائري على مبدأ والهدف المنشود المتمثل في الاستقلال التام للجزائر ومن ثم بناء دولة جزائرية مستقلة وعصرية في إطار مبادئ الشريعة الإسلامية، ومكمل للأهداف التي دعت لها الحركة الوطنية المتبنية للاستقلال التام.
تضمن البيان عديد القيم والمبادئ والمقاصد الإسلامية التي ترسخت في ثقافة المجتمع الجزائري والذي يعد الدين الإسلامي أحد مقوماتها مع تعرض الشعب الجزائري لأبشع حركة استعمارية عرفتها الإنسانية آنذاك.
استهدفت المقومات اللغوية والدين الإسلامي وتم توظيف البعد الصليبي من طرف الحركة الاستعمارية لقهر الإسلام ونزع قدسيته من المسلمين الجزائريين، فأبانت هذه الحركة الاستعمارية العنصرية عن مشاريع استيطان الفكر والأرض ذات أبعاد سياسية واجتماعية لتفكيك الشخصية الجزائرية وتحييدها عن أصلها بإغراءات التجنيس والتمسيح.
هذه المشاريع وقف لمحاربتها الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد نهضة الإصلاح في الجزائر مدافعا عن مقومات الشخصية الجزائرية باعتبارها عربية إسلامية في نشيد هذا نصه:
شَـعْـبُ الْجَـزَائِـرِ مُــسْــلِــمٌ….. وَإِلىَ الْـعُـرُوبَةِ يَـنْتَـسِـبْ
مَنْ قَــالَ حَـادَ عَـنْ أَصْـلِـهِ….. أَو قَــالَ مَـاتَ فَـقَـدْ كَـذَبْ
أَو رَامَ إِدْمَــــــاجًـــــا لَــــهُ….. رَامَ الْـمُحَـالَ مِنَ الطَّـلَـبْ
يَـا نَـشْءُ أَنْــتَ رَجَــاؤُنَـــا….. وَبِـكَ الصَّبَـاحُ قَـدِ اقْـتَرَبْ
خُـــذْ لِلْـحَــيَــاةِ سِــلاَحَــهَـا….. وَخُـضِ الْخُطُوبَ وَلاَ تَهَبْ
وهدف الحركة الاستعمارية من تلك المشاريع والوسائل ضرب الجزائريين في كرامتهم ومحاولة عزلهم عن بعدهم الإسلامي والعربي، حيث عمدت إلى تغيير نمط التسمية المعروفة والتي تتخذ من الاسم الثلاثي أو رباعي وسيلة لتعريف هوية الشخص بنظام الألقاب وأي ألقاب معظمها كانت مشينة ولا تزال أثرها النفسية والمادية إلى يومنا هذا تسبب الإحراج لحامليها.
واتبعت الحركة الاستعمارية سياسة التجويع من أجل فرض أمر الواقع وجعل الاستعمار قضاء وقدر في حياة الجزائريين.
إلا أن تمسك الشعب الجزائري بالدين الإسلامي والعروبة حال دون تحقيق مأرب ومطامع الحركة الاستعمارية الفرنسية بسبب مكانة الدين الإسلامي لدى الشعب الجزائري ودوره في دحر الاستعمار الفرنسي وتعزيز روح النزعة التحررية المسلحة في مواجهة المستعمر الفرنسي وكنتيجة لذلك.
اندلاع الثورة رد على المخططات الصليبية
وإعلاء لكلمة الإسلام اندلعت ثورة نوفمبر التحريرية ورد فعل على محاولات الحركة الاستعمارية ومخططاتها الصليبية الرامية إلى طمس معالم الدين الإسلامي، ومرافقة لاندلاع الثورة الجزائرية انبرى شاعر الثورة مفدى زكرياء مشبها الثورة التحريرية بغزوة بدر الكبرى التي قهرت الشرك والمشركين ودحضت الباطل فكان زهوقا.
وأبانت الثورة التحريرية عن وثيقة بيان أول نوفمبر 1954 الذي أكد على قيام دولة جزائرية مستقلة في إطار مبادئ الشريعة الإسلامية فماهي المبادئ التي اعتمدها بيان أول نوفمبر 1954 وكرسها باعتبارها منبثقة من الشريعة الإسلامية؟.
احتوى بيان أول نوفمبر1954 على مبادئ إسلامية والتي من بينها ما يلي:
مبدأ السلم:
إن الإسلام كدين وشريعة يهدف إلى تحقيق السلم والأمن للإنسانية جمعاء واعتبارا أن الإسلام هو اسم من أسماء الله الحسنى ومبدأ من المبادئ التي كرسها الإسلام فأصبح جزءا من كيان المسلمين فعلى المسلم أن يؤديه.
ذلك أن الحرب والقتال إنما هي حادث عارض لا يلجا لها إلا في حال الدفاع عن الإسلام والمسلمين لرفع الظلم عنهم أو دفع فتنة لهم في دينهم، والدليل على ذلك احتلال فرنسا للجزائر عام 1830 واي فتنة وظلم حال بلد وأقدام الاستعمار حل بهذا البلد المسلم الأمن اذ حاولت الحركة الاستعمارية مسخ وطمس هوية الشعب الجزائري الإسلامية محاولا من وراء هذا كله أن تكون فرنسا وريثة الإمبراطورية الرومانية ومجدها وتوجهاتها المسيحية.
برغم كل هذه البواعث والأسباب لم يدعوا بيان أول نوفمبر 1954 للعنف أو الحرب وتبين ذلك من خلال قراءة نص بيان أول نوفمبر في فقرته (…وتحاشيا للتأويلات الخاطئة وللتدليل على رغبتنا الحقيقة في السلم، وتحديدا للخسائر البشرية وإراقة الدماء، فقد أعددنا للسلطات الفرنسية وثيقة مشرفة للمناقشة، إذا كانت هذه السلطات تحدوها النية الطيبة، وتعترف نهائيا للشعوب التي تستعمرها بحقها في تقرير مصيرها بنفسها..).
وثيقة نوفمبر قدمت ضمانات للأوروبيين
من باب الإنسانية، تعهدت جبهة التحرير الوطني بوصفها ممثلا للشعب الجزائري آنذاك بضمان الحفاظ على مصالح الفرنسيين تطبيقا لمبدأ السلم نصا ومنهجا، حيث قدمت عديد الضمانات للجالية الأوروبية المقيمة في الجزائر ووضعها بعد الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية الجزائرية.
نص بيان أول نوفمبر على هذه الضمانات بالقول (…جميع الفرنسيين الذين يرغبون في البقاء بالجزائر يكون لهم الاختيار بين جنسيتهم الأصلية، ويعتبرون بذلك كأجانب تجاه القوانين السارية أو يختارون الجنسية الجزائرية وفي هذه الحالة يعتبرون كجزائريين بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات…).
ذلك أن الشعب الجزائري يدعوه القرآن الكريم أن يسالم من سالمه ويوأد من واده وانه لا يستكين لمن اعتدى عليه ويبغي له الأذى.
ومن باب الدفاع على النفس العرض المال الدين والعقل كان لزاما الإعلان عن اندلاع الثورة التحريرية لكبح جماح الحركة الاستعمارية ودحرها ودمغها.
وأمام تعنت السلطات الاستعمارية ورفضها الدخول في مفاوضات والاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره في الاستقلال كان لزاما عليه حمل السلاح وإعلانها ثورة تحريرية مسلحة.
مبدأ الوحدة :
يعد مبدأ الوحدة من بين الثوابت الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي فالآيات القرآنية صريحة وجلية الوضوح في هذا الصدد.
وهذه دعوة للوحدة ولم شمل الشعب الجزائري على هدف واحد وهو الاستقلال حفاظا على نعمة الإسلام التي وحدت الشعب الجزائري ضد المستدمر الفرنسي داخليا وخارجيا.
المستوى الداخلي:
دعا بيان أول نوفمبر إلى تجنب الصراعات الداخلية التي عرفتها الحركة الوطنية قبيلة الثورة التحريرية بنص على وجوب الوحدة الوطنية وتجسيد فعلي للهدف الذي ينشده الشعب الجزائري المتمثل في الاستقلال التام، حيث جاء في البيان ما يلي (…ونتيح الفرصة لجميع المواطنين الجزائريين من جميع الطبقات الاجتماعية، وجميع الأحزاب والحركات الجزائرية أن تنضم إلى الكفاح التحرري دون أدنى اعتبار آخر…).
المستوى الخارجي :
أشار بيان أول نوفمبر 1954 إلى ضرورة وحدة بلدان شمال إفريقيا اذ جعله هدفا خارجيا للثورة التحريرية الجزائرية إرساءا لمعالم الحركة التحررية حتى أصبحت الثورة الجزائرية نموذجا للحركات التحررية في العالم، واكتسبت صبغة دولية مكنت من تدويل القضية الجزائرية وإسماع صوت الشعب الجزائري الذي يطالب بالاستقلال مما اكسبها تأييد عالمي.
ورد في نص البيان بخصوص الأهداف الخارجية ما يلي (… تحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي…).
وفي إشارة إلى الوحدة المغاربة والعربية ذلك أن الدين الإسلامي يشكل وحدة هذه الشعوب انطلاقا من تاريخها ومصيرها المشترك.
فلا تفرقها الحدود والمصالح الآنية على اعتبار أن هذه الشعوب تملك رابطة تجمعها بقوة هي رابطة الدين الإسلامي الذي وضع لها مناهج وطرق تتبعها لتجنب الصدمات والحروب وتجاوز الخلافات إلى الوحدة الإخوة فيما بينها.
ودرء الفتن والمخططات الني تستهدف وحدتها وتلاحم شعوبها المتقاربة في القلوب قبل الحدود الجغرافية، فقد ألف بينها الدين الإسلامي فمن المستحيل بمكان أن يفرق بينها مخطط استعماري يهدف إلى تسويق أسلحته وأفكاره وتصدير فشله.
موقف بيان أول نوفمبر من الأقليات الدينية
لم يكن بيان أول نوفمبر 1954 في مبادئه انتقاميا ولا تحريضيا ولا عدائيا بدليل أنه دعا لحفظ حقوق الأقليات الدينية السماوية حيث نص بالقول :(..احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني. ) والذي يعد تطبيقا لمبادئ الإسلام.
فالدولة الإسلامية لم تنكر على مواطنيها من غير المسلمين حقهم في العيش أمنين داخل حدودها فلم يعرف التاريخ الإسلامي تقاليد الاستئصال العرقي والديني التي عرفتها الأنظمة الاستعمارية الغربية العلمانية. وهذا نتيجة حتمية لتفجير الثورة التحريرية لدفع الاستئصال العرقي والديني الذي قامت به الحركة الاستعمارية الفرنسية في حق الشعب الجزائري المسلم.
وعليه، يمكننا استخلاص مبادئ الإسلام ومكانته في بيان أول نوفمبر باعتباره عامل مهم في دفع الشعب الجزائري إلى إشعال الثورة للتحرر من قيود الحركة الاستعمارية الفرنسية التي حاول طمس أهم مكون للشخصية الجزائرية لذا حمل البيان بعدا إسلاميا تجلى في المبادئ التي ذكرنها آنفا.
الأستاذ محمد عدنان بن مير