عرفت الثورة الجزائرية كيف تكسب تأييد العالم لقضيتها العادلة، القائمة على مبادئ إنسانية تضمنها بيان أول نوفمبر 1954، وأكدت عليها وثيقة الصومام، وجاء بيان أول نوفمبر بعبارة صريحة: “إن هدفنا هو القضاء على الإستعمار الذي هو العدو الوحيد الأعمى”..
منذ اندلاع الثورة والدعاية الإستعمارية تحاول جاهدة توظيف كل وسائلها وإمكانياتها الإعلامية والدعائية من أجل طمس وتشويه الثورة، لكن تصريحات جنود فرنسيين وقعوا أسرى في أيدي جيش التحرير الوطني وأطلقت سراحهم الحكومة المؤقتة، كشفت زيف هذه الإدعاءات والأكاذيب، حيث أدلوا بإعترافاتهم للصحافة الإستعمارية بالجزائر آنذاك، مؤكدين على إنسانية الثورة والمعاملة الطيبة لهم من طرف جنود جيش التحرير الوطني.
ونقلت هذه التصريحات جريدة المجاهد في عددها الـ 43 بتاريخ 1 جوان 1959، و في الصفحة الخامسة ، وأشارت الجريدة إلى أن هذا العمل الإنساني كان له صداه في أوساط الصليب الأحمر الدولي، هذا الأخير نشر فيه بلاغا يعبر فيه عن ارتياحه لموقف جيش التحرير الوطني.
وقدر عددهم 16 أسيرا مدنيا سويسريا وست مدنيين فرنسيين وتسع عسكريين فرنسيين كانوا في الولاية الثالثة.
قال أحد الأسرى: “إننا نحب أن نعلن عن المعاملة الطيبة التي لقيناها من الوطنيين الجزائريين فلم نتعرض أبدا للشتم أو الإهانة، ولم يستعمل ضدنا أي ضغط مادي أو معنوي، كنا نتناول طعامنا قبل الجميع، وفي بعض الأحيان كنا نخجل من هؤلاء الرجال الذين يعاملوننا بمنتهى الطيبة والروح الإنسانية في الوقت الذي خربت ديار أكثرهم وقتلت عائلاتهم”.
وأضاف: “كنا نظن أننا وقعنا بين أيدي عصابة من القتلة، ولكننا اكتشفنا جيشا نظاميا ولقينا رجالا يمتازون بالنظام والحماس والعزيمة القوية، ويكافحون لتحقيق مثل أعلى يؤمنون به”.
ووصف الأسرى جنود جيش التحرير بأنهم شبان متفائلون يستقبلون الحياة بروح وانشراح ممتلئون حيوية ونشاطا، يشعر الإنسان معهم أن الحياة تتدفق من نفوسهم الفتية قوة، على حد تعبيرهم.
روح أخوية بين الجنود
وأهم ما لاحظه هؤلاء الأسرى هو الروح الأخوية المنتشرة بين جنود جيش التحرير، وبحسب شهادتهم، الضباط والجنود يعيشون بنفس الطريقة ويتناولون نفس الطعام ويواجهون نفس الأخطار ولا توجد أية فروق بينهم، لكن هذه الروح الأخوية لا تمنع من وجود نظام متين وطاعة شاملة آتية من طواعية وإختيار.
ونفى هؤلاء الأسرى الأكاذيب الفرنسية التي مفادها أن جنود جيش التحرير لا يجدون ما يأكلون ويتغذون من الأعشاب والجذور، لكنهم اكتشفوا العكس فالطعام المقدم في غالب الأحيان جيد.
و اندهشوا للمستوى الرفيع من التنظيم، فقد شاهدوا بأم أعينهم وحدات جيش التحرير مسلحة بأحسن الأسلحة، وإلتقوا ممرضين أكفاء ورجال فنيين في صنع الأسلحة وإصلاحها وبغيرهم من العناصر المكونة لجيش منظم حديث.
في المقابل، انتقدوا الجيش الفرنسي واصفين معنوياته بالمنهارة لأنه لا يحارب في سبيل مثل عليا أو هدف معين، بل أن الحرب التي يدفعونهم إليها تقوم على الظلم والإستعمار. وقالوا: ” لو كان الجنود الفرنسيين يحاربون من أجل إستقلال وطنهم لكانوا يبدون نفس الإصرار والشجاعة التي يبديها جيش التحرير الوطني، لكنهم يرفضون أن يموتوا في سبيل كمشة من الكولون”.
وقالوا أيضا: “إن الجندي الفرنسي يؤدي مهمته في هم وقلق، ففي القلعة الزرقاء أطلق جندي رصاصة على فخذه لكي لا يشارك في العمليات، وفي كل الثكنات والمراكز يرتفع صوت واحد هو اتركونا نرجع إلى أهلنا”.
وانتقد الأسرى معاملة المستوطنين الأوربيين لهم بالقول: ” إن الكولون يتظاهرون بالرقة واللطف مع الضباط، ولكنهم يعاملون الجنود بوقاحة واستهتار يتجاوز كل الحدود، ففي الوقت الذي نحرس مزارعهم معرضين للبرد وللموت المفاجئ في ظلام الليل يعيشون هم حياة مترفة هنية”.
ويروي أحد الأسرى أنه في ذات مرة حين قضوا الليل في حراسة مزرعة الإخوة “صوير”، دعا هؤلاء ضباطهم لتناول القهوة داخل المزرعة، وعندما سألهم أحد زملائهم إذا كان لديهم شيئ من القهوة للجنود، أجابوه بأن أمامهم الماء إذا أرادوا شرب شيئ.
وأكد الأسرى أنه لم تكن لهم علاقة وثيقة بجنود الحركى واصفين إياهم بالمرتزقة، وقالوا: “لا نثق فيهم، وكنا نحتقر بيعهم لأنفسهم من أجل المال، هم يعيشون منعزلين ويتناولون طعامهم وحدهم وينامون على انفراد”.
وكذب الشهود الأسرى بلاغات الجيش الفرنسي وزيفهم بالقول: “إننا نعرف زيف البلاغات الفرنسية ولا يصدقها أحد منا، فمنذ بضعة أشهر سقط جنود فرنسيون في كمين بناحية “المياه الساخنة” وقتل فيه 12 من زملائنا، وفي الغد قرأنا في الجرائد أن الجيش الفرنسي نصب كمينا في نفس المكان، حيث قتل عشرات الثوار”.
ومن بين الأسرى ثلاثة جنود مكثوا في الأسر مدة 15 شهرا ونصف وهم دي غانيد، ريمون كوبل وبرانجينوا ديفيزا.
وقال دي غاندي:”بعد وقوعنا في الأسر أخذنا الثوار معهم ومشينا 15 يوما ثم قدمونا إلى الكولونيل عميروش، الذي أكد لنا أنه سيطلق سراحنا قريبا إما عن طريق الصليب الأحمر أو عند نهاية الحرب”.
وقال زميله كوبل: “لم يسألنا عميروش أي سؤال، بل قال لنا أنه لا يطلب منا المعلومات لأنه يعرفها أحسن منا، وأخبرنا عن عدد الجنود في مراكزنا مع أننا لم نكن نعرف عددنا بالضبط”.
وأشار هؤلاء الأسرى إلى أنه في الفترة الأولى من أسرهم حدث وأن مكثوا في مكان واحد مدة خمسة أشهر، وأنه في الليل يتحدث حراسهم عن حياة الكفاح، أما هم فلا يتكلمون سوى عن الأكل ويحلمون بالمأدبة و الأطعمة الفاخرة.
وأكدت تصريحات هؤلاء أن الثوار لم يكونوا يحملون شعورا عدائيا خاصا نحو الأوروبيين القاطنين في الجزائر، وقال ديفيزا: “لقد كانوا يعاملوننا معاملة حسنة مثل بقية زملائنا الأوروبيين الواردين من فرنسا، وكانوا يتوجهون بالكلام إلينا على الخصوص لأننا نفهم اللهجة القبائلية”.
لم يؤثر فيهم استشهاد عميروش
علم الأسرى باستشهاد عميروش بعد يومين أو ثلاثة من وقوع الاشتباك ببوسعادة، ويروى الأسرى أنهم كانوا يشاهدون جنود جيش التحرير الوطني يتهامسون بأن عميروش قد مات، ولكن لم يظهر عليهم أي خوف من عواقب الحادث بل كانوا يرددون بأنه قدر مكتوب.
وبحسب شهادتهم،في 11 ماي جاءهم القائد الذي تولى قيادة الولاية الثالثة بعد عميروش وأخبرهم بأنه سيطلق سراحهم يوم 18 ماي جميعا من مدنيين وعسكريين، وهذا تنفيذا لأوامر الحكومة المؤقتة، ثم زارهم الطبيب في 16 من نفس الشهر وسلمهم ملابس نظيفة، وقبل ذهابهم أخبرهم سكرتير الولاية الثالثة بأن إطلاق سراحهم ليس من أجل الدعاية في الخارج ولكن بدافع إنساني محض.
وحسب تصريحاتهم فإن جنود جيش التحرير الوطني صافحوهم بود خالص عند توديعهم،وقالوا لهم “نحن مسرورين من أجل إطلاق سراحكم”.