عبد الرحمان مزيان شريف، من مناضلي جبهة التحرير الوطني بفرنسا، نجا من الإعدام بالمقصلة.
يروي هذا المجاهد المنحدر من سطيف في كتابه “حرب الجزائر في فرنسا، موريبيان: جيش الخفاء”، قساوة التعذيب الذي تعرض أثناء الاستنطاق، ومعاناته في رواق الموت.
ينتمي لعائلة وطنية معروفة بمشاركتها في الثورة، ولد سنة 1938 بمدينة العلمة (سانت أرنو سابقا)، سافر إلى فرنسا في 1958 بحثا عن العمل وهناك انضم إلى صفوف جبهة التحرير الوطني،وإلتحق بالمنظمة الخاصة لإشعال فتيل الثورة على التراب الفرنسي.
عُين مسؤولا عن ناحية عملياتية هامة وعمره لا يتجاوز 18 سنة، وذلك بفضل مشاركته في عمليات ميدانية ناجحة.
شهادة فرجيس
أثبت كفاءة عالية في تنظيم وقيادة وتنفيذ عمليات مختلفة، ضد أهداف إقتصادية وإستراتيجية فوق التراب الفرنسي للتخفيف عن وحدات جيش التحرير الوطني في الجزائر.
حُكم عليه بالإعدام مرات، نجا من المقصلة، وكان ضمن فريق دخل إلى الجزائر في ماي 1962 عقب توقيع اتفاقيات ايفيان.
يقول المحامي جاك فرجيس عنه: “يمكننا تتبع مسار شاب جزائري ولد في عائلة محرومة، شأنها شأن كل عائلات الشعوب المستعبدة، ثم عاش محنة الإعتقال والضرب والمحاكمة، والحكم عليه بالإعدام الذي لم ينفذ”.
ويضيف: “انتصار الشعب الجزائري الذي أنقذه من الموت، أنا فخور لأنني كنت محاميا ومدافعا عن عبد الرحمن مزيان شريف”.
لحظة الاعتقال
يروي مزيان شريف لحظة إعتقال الشرطة الفرنسية له رفقة مسؤوله عيساوي، بعدما اقتحموا شقة مناضلة جزائرية تدعى نادية الصغير كانت تخفيهم فيها لعقد إجتماعاتهم.
وضعت الأغلال في أيديهما ثم سجنا مدة.
يقول: “حبسنا في ذلك السجن مدة لا أعلمها لأني فقدت عامل الوقت، بعد أن سحبوا مني ساعتي وكانت فتحة الباب لا تفتح، إلا مدة قصيرة لأجل تمرير وجبة غذاء لا تغني ولا تسمن من جوع، وقليلا من الخبز اليابس الذي كنت ألتهمه بشراهة”.
ويضيف: “في صباح أحد الأيام أخرجوني من حجرتي وتبين لي أن الشرطة اكتشفت أمري، أقعدوني فوق كرسي حديدي وسط قاعة لا أرى جدرانها، لأن المصابيح كانت مسلطة علي، كان الضوء ساطعا وكانت عيناي تحترقان عند إغلاق جفوني”.
استنطاق..
يصف مزيان كيفية استنطاقه من طرف جلاديه بسرعة لدرجة استحالة التفكير في صياغة جواب وعندما يتسنى له ذلك فلا يمكنه التفوه به.
الأضواء كانت قوية، وبلهجة خشنة ومحتقرة وعدائية تتراكم الأسئلة في أذنه:” أنت أحد الفلاقة القذرين ما اسمك؟ من كان يزودك بالأسلحة؟ من قدم لك البلاستيك؟ كيف فعلت لوضع القنبلة ب..؟ من قام بتجنيدك؟ من هو عمر حرايق؟ أين هو؟.
وإجابته دائما “لا ادري، سيدي”.
أثناء الإستنطاق تلقى لكمات كثيرة حتى أصبح وجهه متورم ودام ومتخذر. استمر الاستجواب ساعات.
منعوه من النوم ثم سكبوا ماءا جامدا على جسده، لكن المعاناة شديدة إلى درجة انه كان يفقد الوعي تحت وقع الضربات.
يقول: “لكنهم كانوا يقومون بإنعاشي للمعاودة من جديد. هذه المرة يجربون التعذيب بواسطة المغطس، تم تعليقي في ما يشبه عصي مكنسية ويداي ورجلاي مغلولتان، ثم ينزلونني بتمهل حتى يغرقوا رأسي في ما يشبه المغطس المملوء بماء بارد ومستعمل”.
ما بين حصتين من التعذيب
ويضيف: “مع محاولاتي المتكررة حبس عملية التنفس بكل ما أوتيت من قوة، لكن الماء كان يدخل جسدي من كل مسمات جلدي، وإلتهبت رئتاي ثم استعملوا المواد الحارقة التي تدس داخل الحلق مرفوقة بالشتم واللكمات”.
ويقول أيضا: “كانت تلك الوجبة الرديئة التي كانت تقدم لي أحيانا بالكاد تبقيني على قيد الحياة فقط، لكني كنت ألتهمها كوحش يتضور جوعا”.
ويشير مزيان إلى أنه عندما يتمكن من الخلود إلى النوم العميق، يسمع صرير الباب فيخيل له أنهم قادمون لإيقاظه وتعذيبه من جديد، ويعيدون الكرة يوميا دام ذلك أياما وأسابيع.
وقال: “كنت أكرر لهم أحيانا من شدة الألم الذي كنت أشعر به، أني ضابط في جيش التحرير الوطني وأنه ليس لهم الحق في إيذائي”.
وذات يوم وخلال الفترة الفاصلة ما بين حصتين من التعذيب قدموا له وثيقة كتبت بالآلة الراقنة، وقالوا له “خذ وإقرأ ستعدم بالمقصلة، ولن تنجو من ذلك” .
يضيف المجاهد: “قهقه الجلاد فرحا بوجهه المرعب وبصفة بذيئة وترقصت الحروف المكتوبة بالآلة الراقنة أمام عيناي ولم استطع تحريك جفوني لأنها تورمت”.
تضمنت هذه الوثيقة كل شيء عنه، ما جعله يظن للحظة أن الذي كتبها رافقه طوال تلك الأشهر التي قضاها في النضال وأنه شهد تنفيذ بعض العمليات التي قام بها …لقد كانوا على علم بكل صغيرة وكبيرة تتعلق به…”.
سحبوه وزجوا به داخل غرفة أخرى للإستجواب، وبالرغم من الضباب الذي كان يحوم أمام عيناه تعرف على رفيقه عيساوي الذي كان في حالة يرثى لها، تعرض لنفس التعذيب.
ويؤكد أنه قاوم إلى أقصى حد لتمكين إخوانه من الفرار من قبضة الشرطة والإختفاء إذا أمكنهم ذلك، لأنه كان يجب المقاومة لمدة 48 ساعة على الأقل، وهو تجاوز هذه المدة.واعترف بمسؤوليته في تنفيذ العمليات.
بعد مرور يومين أو ثلاثة تم تحويله إلى سجن “لي بومات”، أين وجد إخوانه الموقوفين أخضعوا فورا لنظام القانون العام وأودعوا مع كل أنواع المجرمين والمنحرفين.
ليالي لا تنتهي
في البداية كان ورفقائه محل اهتمام خاص من طرف إدارة السجون، لأنهم كانوا مصدر كل متاعب مدينة مارسيليا، فتعرضوا لكل أشكال الاستفزاز والإزعاج بهدف إذلالهم وإهانتهم.
يقول: “كان فصل الشتاء بين 1958-1959 مرعبا وقاسيا بالنسبة لنا، كانت الحجرات الضيقة باردة والجدران رطبة جدا، و أفرشة شعر الخيل كانت قذرة وبالية، ولم نكن نستطيع تغطية رؤوسنا بتلك البطانية الرثة والممزقة والرهيفة التي لا لون لها وذات الرائحة الكريهة”.
ويصف مزيان الليالي أنها لا تنتهي ولا يتخلل ظلمتها الكالحة، إلا أصوات الجرذان المتسللة من الثغور.
يقول: “كان الأكل ذو رائحة كريهة وقهوة الصباح تشبه ماءا قذرا، نقعت فيه ثياب رثة وحساء العدس يحوي حجارة بنفس عدد حبات العدس، و حساء الفاصولياء البيضاء لم يكن أفضل حالا حتى بعض السجناء كسروا أسنانهم بعد تناولها، وكان الخبز الأسود فاسدا بسبب الرطوبة المتسربة في كل شيء وفي كل مكان”.
بالرغم من حالة المكان الذي كان متواجدا به، إلا أنه كان يعتني بنظافة جسده وثيابه وينتظر الوقت المخصص أسبوعيا للإغتسال بفارغ الصبر.
ويشير أنه كان هناك إحترام طبيعي بينه وبين سجناء القانون العام الذين كانوا معهم، ولا يتذكر أنه نشب أي عراك أو اشتباك جدي ماعدا تبادل بعض الألفاظ غير المهذبة خلال النزهات.
ويؤكد مزيان أن النزهات اليومية لم تكن تستغرق أكثر من عشرين دقيقة في البداية، وتتم داخل فناءات صغيرة تزداد ضيقا بسبب ارتفاع الجدران الخارجية،ورغم ذلك تمكن من ربط اتصال مع كل المناضلين الذين سبقوه إلى سجن “لي بومات”.
وحسب شهادته فقد أسست لجنة السجن، ومنذ ذلك الحين تحسنت معنويات مناضلي جبهة التحرير الوطني، فأصبحوا موحدين داخل نظام السجون، وعددهم يقارب 400 معتقل معظمهم معتقلين احتياطيين منتشرين عبر مختلف المراكز.
يقول المجاهد: “ازداد حالنا تحسنا عندما تكفلت بنا لجنة مساندة المسجونين، كانت تصلنا حوالات بانتظام، واستطعنا بذلك اقتناء بعض المأكولات والأغراض ومستلزمات التنظيف والغسيل وبعض الثياب.لكن إدارة السجون ضيقت علينا الخناق”.
يوم المحاكمة..
يصف مزيان مشهد مثوله أمام المحكمة العسكرية الفرنسية لسماع القرار سواء العفو أو الإعدام، وكانت أنظار القضاة موجهة إليه وكلها حقد وعدائية،و حين نطق النائب العام بحكم الإعدام إبتهج كل من كان في القاعة.
يقول: “ذهبت إلى المحكمة وأحكم النائب العام نظاراته وكان مخفيا ثم بدأ:
باسم الشعب الفرنسي…وبعد المداولات وتطبيقا للمواد مزيان شريف عبد الرحمن المدعو علاوة و”ديدي جان لويس” حكمت المحكمة الدائمة عليك بالإعدام، سأتذكر دائما تلك اللحظة الحاسمة،رفع النائب العام العسكري عينيه من الوثيقة.
وأضاف: مزيان الله أكبر، لم أفهم لماذا تلفظ بذلك، ونظرا لإيماني العميق بالله شكرت له تلك الليلة، لتركي حيا حتى ذلك اليوم وقدر لي المشاركة في الكفاح من أجل تحرير وطني”.
في رواق الموت
ويضيف: “نقلت مع عيساوي إلى السرداب الثاني الذي كان يوجد فيه القسم المنفصل المخصص للمحكوم عليهم بالإعدام مكان إقامتنا خلال الأشهر القادمة في انتظار الإعدام بالمقصلة. كان هناك رواق عرضه متران ونصف تقريبا تتواجد به من كل جهة أربعة حجيرات”.
ويشير: “كانت الحجيرة التي أدخلني فيها الحارس زنزانة مظلمة طولها ثلاثة أمتار، وعرضها مترين ونصف يوجد في أعلاها نافذة صغيرة مجهزة بقضبان، تسمح بمرور ضوء طفيف و الجدران مليئة بالرطوبة”.
ويصف مشاعره بعد إقتياده إلى هذه الزنزانة التي يقضي فيها أخر أيامه قبل إعدامه بالقول : “توقفت حياتي لم أنم تلك الليلة، ولم أتناول الطعام الذي قدمه لي الحارس الصامت عبر الشباك، لقد كنت متخوفا من الموت لكني تغلبت عليه جزئيا”.
ويضيف: “بقينا في رواق الموت داخل تلك الزنزانات المشؤومة نترقب تنفيذ حكم الإعدام،لقد تم العفو عن البعض، وبقينا نحن ننتظر”.
نهاية كابوس
يروي مزيان الأيام الأخيرة التي قضاها في السجن قبل تحويله إلى معسكر المحكوم عليهم بالإعدام، ليستفيد من العفو بعد توقيع وقف إطلاق النار، ويتمكن من العودة إلى الجزائر بعدما كان يظن أنه ميت ولن يرى عائلته مجددا، لكن القدر كان يخبأ له فرحة لقاء الأحبة واستقلال وطنه.
يقول: ” ذات مساء بعد حلول الليل تقدم ثلاثة حراس أمام زنزاناتنا، وطلبوا منا جمع لوازمنا ولم تكن تلك ساعة الإعدام المعتادة، وقلت لرفيقي عيساوي داخل زنزانته ها هو قد جاء دورنا لقد تم العفو عنا، لكنه أصيب بنوبة وقال أنهم سيعدموننا وأنا طمأنته.”
ويضيف: “حولنا إلى معسكر المحكوم عليهم القادمين من مختلف سجون الجزائر، من مناطق وهران، العاصمة، وقسنطينة. كان عددهم حوالي 260 معتقلا، وكانت فرحتي عندما تم العفو عنا قدم لي مبلغ 10 آلاف فرنك فرنسي”.
وكانت الشاحنتان العسكريتان اللتان ستنقلهم إلى المطار أمام مدخل المعسكر، وأتى مدير السجن ليودعهم قبل مغادرتهم المعسكر، وطلب من مزيان إعطاءه العلم الجزائري الصغير الحجم الذي سلمته له جميلة بوحيرد ليحتفظ به ذكرى.
نقل المجاهد رفقة أصدقائه في طائرة مروحية ثقيلة، دامت رحلة العودة إلى الجزائر أكثر من 3 ساعات، وصلوا ليلا إلى تلاغمة وبعد أيام التحق بأهله بسطيف، ويصف فرحته برؤية أهله من جديد بالقول: “عادت لي بشاشتي بعد لقاء عائلتي بعدما كنت أظن أنني لن أراهم مجددا”.