تحاكي مساجد قسنطينة حضارات تعاقبت على مدينة تزخر بقصص أسطورية لمساجد فاق تواجدها تاريخ المكان.
هياكل تاريخية تتلمذ على مستواها كبار العلماء والمشايخ، ممّن امتزجت علومهم بزوايا وصروح دينية شكلت من سيرتا مدينة المنارات الدينية التي لا تزال وجهة سكانها، طيلة شهور السنة، باعتبارها مساجد تعليمية تقدم منذ عهود علوم ونصوص يجتهد أئمتها على تلقينها للصغار قبل الكبار.
المدينة العتيقة التي لا تخلو أزقتها وشوارعها من مساجد تاريخية قديمة تعود نشأتها لعقود طويلة من الزمن، تتعدد تسمياتها وتختلف حسب المشايخ والعلماء الذين ساهموا في نشأتها، على رأسها جامع الكتانية، مسجد الجامع الكبير، مسجد رحبة الصوف، مسجد الغزل، وغيرها من المساجد التي تعبر عن مكانة المساجد في نفوس سكان قسنطينة.
أقدم جامع بالمغرب الأوسط
ترتبط مساجد قسنطينة ارتباطا وثيقا بوجود الإنسان في أيّ حضارة، ولعلّ «المسجد العتيق» أو ما يعرف بـ»الجامع الكبير» واحد من دلائل التحضر، يعود تاريخ الجامع العتيق بقسنطينة إلى القرن الـ 11.
يقول الدكتور الباحث بالمركز الوطني لأبحاث عصور ما قبل التاريخ والأنثروبولوجيا، حسين طوطاو، في حديث مع «ذاكرة الشعب» « أنّ الجامع الكبير هو أقدم مسجد على مستوى المغرب الأوسط، والدليل المادي لتاريخ وجود هذا المسجد هو أحد النصوص التذكارية، والموجودة فوق أحد مداخل المسجد والمتواجدة على جانب درب الشيخ لفقون والمغلق، منذ سنوات طويلة والمنقوشة فوق عارضة خشبية الموجودة بداخله.
تعود هذه القطعة الخشبية الموجودة داخل بيت الصلاة إلى عام 455 هـجري، الموافق لعام 1062 ميلادي؛ تمتد للعهد الحمادي في البلاد، حيث أن النص حسبه صعب القراءة لكن يعتبر من شواهد تواجد الجامع ودليل على أنه من أقدم المساجد في الجزائر.
فضلا عن تواجد نص تذكاري آخر وجد مكتوب بالخط الكوفي، ويعود لسنة 530 هجري والموافق لسنة 1135 ميلادي فوق محراب بني من طرف «محمد بن أبو علي الثعالبي»، وهي الكتابة الثانية التي لا تتناقض والكتابة الأولى والتي جاءت بعد النص الأول بـ 70 سنة على الأقل، بني المسجد على أنقاض الحمامات الرومانية التي تم استخدام صخورها فيما بعد لبناء أعمدة المسجد العتيق.
وحسب المؤرخ، عرف الجامع الكبير والمعروف أيضا باسم جامع البطحة تغيرات كبيرة على مستوى مساحته، حيث قام المحتل الفرنسي بهدم واجهته القديمة، وإعادة بنائه من جديد بما في ذلك المئذنة بسبب شق الطريق الذي يعرف اليوم بشارع العربي بن مهيدي باستغلال باقي مساحته أخذ ما يعادل ألفين متر مكعب.
هدمت الملاحق التابعة للجامع ما ساهم في تقليص مساحته الإجمالية، ليؤكد في ذات السياق أنه لم يتبق من هياكله الأصلية، سوى قاعة الصلاة وجزء من البهو وهو ما يظهر للعيان.
الأربعين شريفا وسيدي الكتاني
من بين المساجد القديمة التي تحافظ على روحانية المدينة العتيقة الجوامع والزوايا التي تنتشر عبر جميع أحياءها وأزقتها،والتي ساهمت في تعليم أجيال عديدة أبجديات التعاليم الإسلامية والدينية، نجد «مسجـد الأربعين شريفا «الذي يعد من أقدم وأعرق مساجد قسنطينة يقع تحديدا بالسويقة القديمة.
ساهم هذا الصرح الديني في بناء جيل متخلق ومتعلق بالقيم الإسلامية، وأخلاق سكان مدينة قسنطينة، كان له مدرسة قرآنية صغيرة لحفظ القرآن، مر عليها أجيال وأجيال وكان لها الفضل في تحفيظ كتاب الله لكثير من سكان الحي و خارجه، عرف عمليات عديدة لإعادة تهيئته، ليعود ويستقبل وفود المصلين.
في حين جامع سيدي الكتاني العتيق يقع بسوق العصر بوسط المدينة، أنشأه صالح باي بن مصطفى الذي تولى حكم قسنطينة من 1185 إلى 1207 هجري الموافق 1771-1792 ميلادي، وجسد بجانبه المدرسة الموجودة إلى اليوم في عام 1202 هـ الموافق لعام1787 م، وجلب دعائمه الرخامية وأهم مواد بنائه من ايطاليا، أنفق عليه أغلفة مالية معتبرة ليسمى مسجد «الكتاني» باسم ولي صالح مدفون بتلك البقعة، وأوقف عليه وعلى المدرسة أوقافا عقارية عظيمة من خالص ماله.
من روائع الفنّ الإسلامي
يعتبر جامع سوق الغزل الذي أنشأ عام 1730م بأمر من الباي حسن، وفي عهد الاستعمار الفرنسي حول للعبادة الكاتولوكية، وبعد الاستقلال عاد إلى أصله ويتكون من غرفتين كبيرتين واحدة للصلاة وأخرى للنساء وغرفة صغيرة للإمام، من أجمل المساجد بالولاية يمتاز بطابع معماري متميز ورائعة من روائع الفن الإسلامي.
يقع تحت مبنى قصر أحمد باي بوسط المدينة القديمة وتحديدا بـ»القصبة»، والذي يعتبر من بين المساجد التي تعرف توافدا لسكان وسط المدينة سيما بعد عمليات الغلق التي مست عديد الجوامع بسبب عمليات الترميم.
مسجد «سيدي الأخضر» يعد هو الأخر من أعرق المعالم الدينية في مدينة قسنطينة، يعود تاريخ بنائه إلى سنة 1743م، فترة حكم الباي العثماني «حسن بن حسين».
يتميز مسجد سيدي الأخضر بطرازه المعماري الذي يغلب عليه الطراز المعماري للمغرب العربي، والذي يتجلى في شكله الخارجي ولونه الأبيض الطاغي وطول صومعته الواقعة بجوار مبنى المسجد، فإنه لا يخلو من طابع الطراز العثماني، الملموس في شكل المئذنة المثمنة الشكل، والتي نجدها تقريبا في أغلبية المساجد التي بناها البايات العثمانيون.
وتمتاز هذه المساجد بأسقف وأعمدة خشبية وجدران سميكة تحفظه من الحرارة صيفا والبرودة شتاء، ولعل ذلك قد ساهم في محافظة المسجد من تصدع 275 عاما بما في ذلك 132 عام من الاستعمار، رغم أنه يعد من أعرق المساجد، إلا أنّ المسجد قد أغلق منذ 2015، ضمن مشروع إعادة الترميم، الذي لم ينته منه إلى يومنا هذا ، و ما تزال الأشغال مستمرة، وتدرج بين الحين والآخر في طيات النسيان، وأسكتت مئذنة المسجد التي غمرت الحي لأكثر من قرنين.
منارة علمية ووجهة سياحية
ومن المساجد العتيقة نتجه نحو الجديدة منها، لا يمكننا رصد مساجد قسنطينة دون الحديث عن الأيقونة المعمارية الخاصة بمسجد الأمير عبد القادر الذي يشكل تحفة فنية ومعمارية فريدة من نوعها، مسجد صنّف من أكبر المساجد في شمال إفريقيا شيد في السبعينات بمدينة قسنطينة ودشن عام 1994، يمتاز بهندسة معمارية رائعة آية من الفن المعماري على النمط المشرقي الأندلسي.
«ذاكرة الشعب» وفي حديثها والدكتور «عبد الله بوخلخال» عميد سابق لجامعة الأمير عبد القادر الإسلامية أكد، أنّ تاريخ إنشاء المسجد يعود لسنوات استقلال الجزائر، إقترحه الرئيس الراحل «هواري بومدين» لدى زيارته لقسنطينة في 1968، حيث طلب منه مجموعة من أعيان المدينة بضرورة بناء مسجد كبير بمستوى مدينة العلم والعلماء وبمستوى العلامة الشيخ عبد الحميد ابن باديس وإطلاق إسمه عليه.
ليكلف آنذاك العقيد بن حمد قائد الناحية الخامسة ومكتب الدراسات سونطراك، ومديرية الإنجازات التابعة لمؤسسة الجيش الشعبي الوطني للوقوف على تصور بناء أكبر مسجد وجامعة إسلامية تواكب الجوامع العربية بمختلف الدول العربية.
ليتم الانطلاق في بنائه سنة 1970 بغلاف المالي مشترك من طرف الدولة الجزائرية و بعض المتبرعين، و فيما يخص تصميم المسجد كان من طرف مهندس الرئاسة المصري السيد «مصطفى موسى»، والذي أشرف على إنجاز هذا الصرح الديني الضخم، ليتم تسليم الجامعة الإسلامية في تاريخ 14 أكتوبر 1984 من قبل الرئيس الراحل «الشاذلي بن جديد» وبعد 10 سنوات فتحت أبواب المسجد من قبل رئيس الحكومة آنذاك «مقداد سيفي» في نوفمبر 1991.
إضافة للدور الذي يؤديه المسجد، أكد بوخلخال أنّ الجامعة الإسلامية التابعة له والتي دشنت سنة 1984، تحتل مكانة متميزة هي الأخرى، حيث يتخرج منها سنويا الآلاف من الطلبة الجزائريين، وغيرهم من القادمين من مختلف الدول العربية والإفريقية، في مختلف الاختصاصات التي لها علاقة بالدين الإسلامي والشريعة.
يضم المسجد أيضا مدرسة قرآنية تتكون من سبعة أقسام، يتخرج منها سنوياً، المئات من حفظة القرآن، والمختصين في التفسير، إلى جانب دوره في نشر العلوم الشرعية حيث ينظم على مدار السنة ملتقيات دينية علمية، يشارك فيها أبرز أعلام الدعوة الإسلامية في العالم العربي الإسلامي، الذين أشرفوا في عديد المناسبات على تكوين مئات الطلبة العرب والأجانب على رأسهم الشيخ والمفكر محمد الغزالي، يوسف القرضاوي، عائض القرني وغيرهم من المفكرين العرب.
المدينة تعزز مكانتها
أكد المختص في العمران والهندسة «يوسف كرواز» أنّ، قسنطينة تمكنت في الفترة الممتدة ما بين سنتي 1970 و 1994 من تعزيز مكانتها ودورها في تنمية الجانب الديني والأكاديمي على المستوى الوطني والإفريقي، بفضل تجهيزها بالنصب المعماري مسجد وجامعة الأمير عبد القادر، وأنّ الفترة التي تقرر فيها إنجاز المسجد كانت فترة تاريخية وسياسية حساسة.
كانت تعتبر الدولة الجزائرية آنذاك دولة فتية، بصدد إعادة بناء معالم هويتها المطموسة من قبل الاحتلال الفرنسي، ففكرة إنجاز الصرح الديني جاء لدلالة على الخروج من الهيمنة الاستعمارية وتأكيدا على انتماء الأمة الجزائرية إلى الأمة الإسلامية.
ونظرا لاحتياج الدولة الجزائرية الفتية لإظهار وإبراز أهميتها واسترجاع سيادتها، تقرر إنجاز أكبر مسجد في الجزائر في تلك الفترة ذو مكانة وطنية وقارية يعكس التوجه الديني والأيديولوجي للشعب الجزائري الحديث الاستقلال.
تتربع مساحة الجزء المبني من المسجد، ولواحقه على مساحة تقدر بـ 9000 مربع، حيث بني ووجه نحو مكة المكرمة، شكل تصميمه مستوحى من الحضارة المملوكية والأيوبية والتي تذكر بتصميم مسجد «السلطان حسن» المتواجد بالقاهرة، وهو في مجمله متكون من 03 قاعات للصلاة بسعة 12000 مصلى، وله منارتين بارتفاع 120 م وقبة ضخمة بقطر 20 متر وارتفاع 65 متر، وهي مزينة بأضخم ثريا في الجزائر.
وأنجز مسجد الأمير عبد القادر من طرف مجموعة من المعماريين المسلمين المختصين في العمارة الإسلامية ذوي الكفاءات العالية، وبعد وفاة مصطفى يوسف خلفه المعماري «إسماعيل حسين» الذي تكفل بالناحية الجمالية واللمسة الفنية الإسلامية، تم الاستعانة باليد العاملة المغربية المؤهلة في 1992 لوضع اللمسات الفنية الأخيرة، ليضيف «يوسف كرواز» أنّ المسجد الجامعة يمتد على مساحة 13 هكتارا.
يصنف على أنه إنجاز معماري متميز ومنارة إسلامية فريدة من نوعها، بالنظر لشكله الهندسي الفني يتميز بهندسة مشرقية ومغربية رائعة، تتوسطها دعائم مصنوعة من الرخام والخشب الرفيع عالي الجودة، الذي تزينه الأحجار النفيسة، وتتخللها أقواس تسمح بدخول ضوء الشمس عبر نوافذ زجاجها تتمازج فيه ألوان الطيف.
ويعتبر العمل الهندسي الذي يمتاز به المسجد، من أجمل الصروح الدينية السياحية التي جعلت منه قبلة سياحية، يتوافد عليه المواطنون من كل أنحاء الوطن لرؤية جمالية المنظر المتناسق بين زخرفة عربية متجانسة، وأقواس شاهقة تعبر عن ثقافة إسلامية بحتة.