الاحتفال بالذكرى الـ 60 كان مميّزا بضخامته وشعاره «تاريخ مجيد وعهد جديد»، وبالاستعراض العسكري الضخم، واختيار مكان إقامته في المحمدية.
يرى خبراء ومختصون في التاريخ في قراءة لرمزية الاحتفالية بستينية استرجاع السيادة الوطنية، أنها جاءت في وقتها المناسب، فبعد ستين سنة من الاستقلال، عادت الدبلوماسية الجزائرية إلى الواجهة وإلى قوّتها المستمدة من المرجعية الثورية.
وعادت الجزائر قوة فاعلة ومؤثرة في حوض البحر الأبيض المتوسط، كل هذا مع التحديات الخارجية المحيطة بالجزائر، وعلى ضوء التوترات العالمية.
في هذا الصدد، يرى الدكتور والباحث في التاريخ الأستاذ مولود قرين في تصريح لذاكرة الشعب” ، أن اللافت للنظر والموحي بعودة قوة الدبلوماسية الجزائرية، ذلك الحدث التاريخي الذي جمع بين الأشقاء الفلسطينيين الفرقاء، في صورة سيميائية تحمل دلالات كبيرة.
أهمها أن الجزائر أم الجميع، وأنها قادرة على لم شمل الفرقاء، وأنها كانت ولا زالت حاضنة لحركات التحرر وملهمة لكلّ الشعوب التواقة للتحرر والانعتاق من الاستعمار بكل أشكاله.
ويضيف: ” ما يزيد من قيمة هذا التوقيت، تلك الاستفزازات غير المسؤولة من الضفة الأخرى المشككة في تاريخ الجزائر العريق وإذا نظرنا إلى شعار الاحتفالية، نلاحظ أنه اختير بدقة، وعبقرية منقطعة النظير. معبرا عن التوجه الجديد للدولة الجزائرية التي أولت عناية كبيرة لموضوع الذاكرة الوطنية».
ويبرز قرين : ” فلا حاضر ولا مستقبل لأمة لا تاريخ لها، فالعهد الجديد المنشود سيكون قائما على مرجعية التاريخ المجيد الذي خط فيه أسلافنا خطوطاً عريضة ستوصلنا إلى بر الأمان”.
لعل أبرز هذه الخطوط العريضة- يضيف الدكتور – مبدأ الوحدة، ولم الشمل، ونبذ الفرقة والعنصرية والجهوية، ومبدأ الأخوة والتضامن، ومبدأ التضحية وممارسة الوطنية ميدانيا، ومبدأ السلم والتسامح والعيش المشترك وغيرها من المبادئ والمرجعيات التاريخية، التي يمكن استلهامها من تاريخ الجزائر بصفة عامة، وتاريخ الثورة التحريرية بصفة خاصة.
جامع الجزائر.. هوية الجزائر
بالنسبة لمكان إقامة الحفل بمحاذاة «جامع الجزائر»، له دلالات كبيرة، فالجامع يعبر عن هوية الجزائر، وهو نفس المكان الذي حاول من خلاله الاستعمار أن ينصر ويغرب المجتمع الجزائري، انطلاقا من مشروع الكاردينال «لافيجري»، فهي رسالة واضحة كون هوية الجزائر ثابتة متجذرة.
ومن أبرز صور هذا الاحتفال المهيب، -يقول الدكتور- الاستعراض العسكري الضخم، الذي أبان عن قوة الجيش الجزائري عدة وعتادا.
وقد أعطى ذلك صورة مشرفة عن التلاحم بين الجيش والشعب، هذا التلاحم والتناغم الذي لم يأت من فراغ، وإنّما من العمق الشعبي للجيش الوطني سليل جيش التحرير الوطني الذي ولد من رحم الشعب.
ويؤكد الباحث في التاريخ مولود قرين ختاما، أن احتفالية الستينية صنعت التميز وتمكنت الجزائر من خلاله من توجيه مجموعة من الرسائل للداخل والخارج.
احترافية، جاهزية وتحكم
من جهتها، ثمنت الأستاذة بالمركز الجامعي مرسلي عبد الله مريم ضربان المتخصصة في علوم الإعلام والاتصال اختيار الجزائر لهذا المشهد المهيب للاستعراض العسكري، فخرا بالجيش الوطني الشعبي بكل أطيافه البرية البحرية والجوية إحياء لعقدها السادس من الاستقلال.
فللاستعراض قراءات عديدة، لها أبعادها الداخلية والإقليمية والعالمية، أولها أن ما وصل إليه جيشنا من تحكم وجاهزية وقدرة وامتلاك لأسلحة استثناء، ومواكبتها لأحدث التكنولوجيا العسكرية هي نتاج مسار من الجهد للوفاء بعهد «فاشهدوا» التي تلازم نشيدنا الذي هو بمثابة «قسم» رمزي.
وأثنت أيضا على الشعار «تاريخ مجيد وعهد جديد»، عهد للبناء ومواصلته، من أول قطرة دم خضبت أرض هذا الوطن الطاهر، وهو ما شد انتباهي في محاكاة فرقة المجاهدين والثوار، أول العرض العسكري والمرفقة بالخطاب الحماسي والشعري للتعريف بكل فرقة ونوعها وسلاحها، فيما يفتح أفقا مميزا للثقافة العسكرية وثقافة الاعتزاز بالتنوع الواسع لجيشنا الوطني.
وهو ما يجعلنا نقول إن الجزائر قوة إقليمية ترد بلغة التحكم لكل من تسوّل له نفسه انتهاك حرمة هذا الوطن بأي شكل، وهو ما يدخل ضمن ما تسميه الدراسات الإستراتيجية بالردع الاستراتيجي والأمن والدفاع الموسع.
يضفي احتفال الجزائر بعيدها المجيد أمام جامع الجزائر قراءات رمزية المكان ـ وفق رؤيتهاـ، فالإفراط الحدثي من شأنه تلبيس المكان بمخيال أو صورة جديدة تكسر ما سبقها، هنا كسر لافيجري ومشروع التنصير، بأطول مئذنة في التاريخ ومنارة أيضا في وضح النهار.
وثالث أكبر صرح ديني بعد الحرمين الشريفين، تذكرنا بها الدول التي نقلت الاحتفال عالميا، وأهمها الإعلام الذي اختار مشاهد حرصت فيها على تصوير المئذنة مع كل فرقة، وهو ما يسمى بثنائية توكيد الصورة، أي إرفاق حدث مع مكان أو زمان يعطيه هيبته أو عبقه، وهنا عبق الثورة من عبق المسجد.
فالاستعراض الجوي ـ استطردت ـ مثلا مر بمحاذاة المئذنة، وهو ما يجعل المتفرج يربط لا إراديا صورة المئذنة بالعرض، أيضا تدخل فيما يسميه ستوارت هال بلكنة المكان، أي أن الأمكنة تنقل سحر الحدث، وعودة للزمان وقبيل وقفة عرفة، تزداد روح الطقس المقدس في عملية التذكر، وهو ما تسعى إليه الجزائر في العهد الجديد، مشروع بناء الذاكرة المقاومة.
الستينية مشروع وليست حدثا
ومن خلال متابعة النشاطات المتعددة للجزائر في إطار مشروع الذاكرة إما إعلاميا من خلال قناة الذاكرة وذاكرة الشعب،أو علميا على مستوى الجامعات ومراكز البحوث، أو الوزارات خاصة وزارتي المجاهدين وذوي الحقوق والثقافة.
-تقول الأستاذة-، نلاحظ أن الاحتفال بالستينية كان مشروعا تاريخيا حضاريا بخطة إستراتيجية واضحة المعالم والأهداف.
وتتمثل الأهداف، في الحرب ضد تشويه الهوية وحروب الذاكرة وما تفضي به أجيال الحروب الرابعة والخامسة، خاصة مشروع التحصين الإعلامي الذي تتبناه الجزائر عبر إعلامها المتنوع، والمتبنى أيضا من طرف مديرية الإيصال والإعلام والتوجيه عبر مجلة الجيش.
الثورة ودبلوماسية الصداقة
وفيما يخص حضور قادة الدول الشقيقة والصديقة الاحتفال، تمثل حسب مريم ضربان ثقافة عرفان بالتاريخ المشترك وحظوة بالانتماء لقضية مصير، أبهرت العالم، فحضورهم وفق دراسات»اورا» أي تلبس حالة الزمان والمكان من خلال الحضور والمعايشة، تحدث حالة انفعال إنساني تصل إلى الشعور باللحظة من الماضي.
وتضيف: “هنا يمكن رصد القرارات التي نتجت عن الحضور فشارع برام الله اسمه الجزائر، فتح الحدود مع تونس، بدءا من 15 جويلية، والتي كانت مفتوحة أصلا، وهنا أعود إلى فكرة المشروع وليس الحدث”.
وما يثير الإعجاب حضور الأصدقاء ومعايشتهم لدولة أحبوها ولا تزال في قلوبهم حد البكاء، وهو الحدث المتبنى من طرف مركز البحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1 نوفمبر 1945، تحت شعار القيم الإنسانية، لا يمكن نسيان راية فلسطين الحاضرة في كل عرس جزائري إما رياضي أو وطني بوصفها قطعة من القلب.