تعتبر سنة 1832 بداية للهجرة الجزائرية نحو المشرق العربي، بسبب اضطهاد الجيش الفرنسي وجنرالاتهم السفاحين، وعلى رأسهم الجنرال روفيقو.
يقول المؤرخ المرحوم أبو القاسم سعد الله، انه حين احتلال الإستعمار الفرنسي للجزائر، حمل الأعيان والقادة والسياسيين، على مغادرة الجزائر بعد اتهام فرنسا العناصر الفاعلة في الساحة الدينية والسياسية بالتآمر ضد الفرنسيين أو بالإرتباط بالأتراك أو بالإنضمام إلى مقاومة الأمير عبد القادر.
ومن هؤلاء رجال عثمانيون كانوا متقلدين لسلطات قضائية أو سياسية أو إدارية مثل البايات وأعوانهم والقضاة والمفتيين.
ويشير إلى استقبال الإسكندرية وأزمير والحجاز الباي مصطفى بومزراق، والباي حسن موسى، والمفتي محمد بن العنابي ،والمفتي مصطفى الكباطي.
واستقبلت باريس حمدان خوجة، ومصطفى بن عمر، وحمدان بن أمين السكة وغيرهم، وهم الذين شكلوا لجنة الحضر لمعارضة الإحتلال ثم طردهم الحاكم الفرنسي الجديد كلوزيل ثم خلفه رفيقو.
ويوضح سعد الله، أن عهد بوجو (1841-1847) امتاز بتهجير من نوع آخر لأعيان الجزائر، وهو النفي والطرد خارج الجزائر، فقد حكم على كل مشبوه وكل زعيم سياسي أو إداري من الجزائريين لم يتعاون صراحة مع العدو، على مغادرة بلده وعائلته، ثم نقله قسرا إلى سجون نائية في جزر بعيدة مثل كاليدونيا الجديدة وكايان والمارتنيك وسانت مرغريت، وغيرها، إضافة إلى سجون فرنسا نفسها مثل سجن الهام.
ويضبف: ” أجبر الجزائريون على الهجرة والإقامة بعيدا عن أرض الإسلام والعروبة، وفي عهد بوجو، فكر الجزائريون وعلى رأسهم الأمير عبد القادر، في الهجرة الجماعية نحو الشرق”.
أجبروا على الهجرة الجماعية بسبب القمع والضرائب
يؤكد الباحث الدكتور عمار هلال، في كتاب”الهجرة الجزائرية نحو بلاد الشام1847-1918″، أن الجنرال روفيقو، أثقل كاهل الأهالي بالضرائب وقمع كل الإنتفاضات التي قامت ضده، وخير دليل إبادة قبيلة العوفية، التي امتنعت عن دفع الضرائب، وبوهران ارتكب الجنرال بوايي Boyer، أبشع الجرائم، والتي دفعت الجزائريين إلى ترك ديارهم وأهاليهم بحثا عن ملجأ آمن.
ولهذا فكر الجزائريون في الهجرة إلى البلدان العربية والمجاورة.
ويشير الباحث إلى أن كل حركة هجرة كانت لها أسبابها الخاصة ومميزاتها، فحركة 1888 خصت الجزائريين، الذين هاجروا إلى تونس في فترات تاريخية معينة واستقروا بها ومنها من هاجر إلى سوريا وفلسطين ومنهم من استقر في لبنان.
في حين هجرة 1911، فقد حصرها المؤرخون الفرنسيون خطأ في مدينة تلمسان وأصبحت تعرف بهجرة تلمسان، ومن أسباب هجرة الجزائريين إلى المشرق بخاصة الشام هو العامل الديني خوفا على إسلامهم من بطش المحتل، ويشير المؤرخون إلى دور الطرق الصوفية في هجرة الجزائريين إلى سوريا بعدما فعله الاحتلال الفرنسي بالسكان من حرق القرى وتعذيب وتقتيل.
وأدى العامل الإقتصادي أيضا دورا في تحريك حركة الهجرة الجزائرية نحو المشرق للبحث عن مصادر العيش، بسبب التدهور الاجتماعي والبؤس والجوع.
أكثر من 200 عائلة نزحت نحو سوريا
وتشير دراسة الدكتور هلال إلى أن أكثر من 200عائلة من بلاد القبائل من بينها 60عائلة من أولاد الشرفة و30 عائلة من بني ايت بوعدة، نزحوا إلى سوريا، واستقروا في مدينة دمشق ولم يقطعوا الصلة بينهم وبين أهاليهم في الجزائر.
وهاجر الحاج عمر، زعيم الطريقة الرحمانية الثائرة في بلاد القبائل بأهله وبولده الشريف وببنت الشريف مولاي إبراهيم، إلى المشرق بعد ثورة 1857، وهاجر أيضا من جرجرة سي الجودي، الزعيم الشهير الذي عاصر بوجو، وعهد راندون في الجزائر.
ويذكر د.عمار هلال أن أحمد بن سالم، وجه نداء من دمشق إلى سكان مدينة دلس وضواحيها ليلتحقوا به في منفاه فاستجاب له حوالي 80 شخصا ونزلوا ببيروت في 1853.
وحسب الأرشيف الفرنسي، أكثر من 80 جزائريا قدموا من ذراع الميزان ودلس وسور الغزلان، نزلوا في ميناء بيروت،استجابة لنداء بن سالم، وقد صرحوا للسلطات الفرنسية في بيروت أنهم يرفضون الحماية الفرنسية بكل أشكالها ويرغبون في الدخول تحت سلطة الدولة العثمانية.
في هذا الصدد، كتب القنصل الفرنسي إلى حكومته قائلا: “ليست هذه المرة الأولى، التي تحدث فيها مثل هذه الأشياء فكثيرا ما ادعى الجزائريون الذهاب إلى الحجاز لتأدية مناسك الحج، فإذا بهم يتوقفون في بيروت رافضين الحماية الفرنسية متخليين عن جنسيتهم الفرنسية مصممين بشكل لا رجعة فيه على الدخول في حماية الدولة العثمانية، والاستقرار نهائيا في هذه الأوطان”.
واتهم القنصل الفرنسي بدمشق، أكثر من مرة، أحمد بن سالم وغيره من الوجهاء الجزائريين في سوريا واعتبرهم مسؤولين عن تحريض الجزائريين على الهجرة.
وتشير إحصائيات إلى أن عدد المهاجرين الجزائريين المسجلين في القنصلية الفرنسية بدمشق بين سنتي 1856و1858 وصل 79عائلة أي 480 نسمة، وبعد أربع سنوات ارتفع عدد المسجلين إلى أكثر من 2500 نسمة، لكن هذا العدد يتطلب التحقق منه، يقول الباحث هلال.
وبعد ثورة المقراني في 1871، دمرت فرنسا القرى و المداشر في جبال جرجرة والصحراء، ما أدى إلى هجرة الجزائريين، فالموجة الأولى من المهجرين كانت هجرة المثقفين والعلماء والثانية هجرة فلاحين وجنود مقاتلين لذلك تجد في الشام عائلات جزائرية مثل عائلة ساريح، خليفاوي،شرفاوي،يعقوبي، وغيرهم.
وأدت ثورة 1871الى تهجير زعمائها وخصوصا الشيخ سي عزيز الحداد، الذي حمل إلى كاليدونيا وبعد سنوات طويلة هناك هرب إلى الحجاز الشيخ الونوغي.
وشهدت جزيرة كاليدونيا قدوم عدد من العائلات الجزائرية، التي نفتها فرنسا لمشاركتها في ثورة المقراني.
ومع الحرب العالمية الأولى كانت حركة الهجرة نحو المشرق بلغت أوجها في شكل حركات سياسية ونواد ثقافية،وهناك علماء جزائريون زاروا الشام ثم رجعوا منها بأفكار ظلت محفوظة إلى حينها، منهم الشيخ سعيد بن زكري، عبد الحليم بن سماية، محمد سعيد الرواون، الأمير خالد، عبد الحميد بن باديس، وأحمد بن عليوة، ولكل هؤلاء دوره في الحياة الفكرية والسياسية في الجزائر بعد ذلك.
من جهته، تناول الأستاذ سهيل الخالدي، في دراسة بعنوان “دور المهجرين الجزائريين إلى بلاد الشام في حركة التحرر القومي العربي ،1847-1987″، إلى دور الجزائريين في حركة التحرر القومي العربي، منهم الأمير عبد القادر وأبنائه وأحفاده في سوريا، وأسماء لامعة من المهاجرين منهم الشيخ طاهر بن صالح الجزائري، المعروف بالطاهر السمعوني.
وكان لهذا الشيخ فضل عظيم في إحياء الثقافة العربية وتكوين جيل من الأدباء والمفكرين والسياسيين،وعائلة المبارك التي هاجرت من دلس، فقد اقتصر نشاطها على علوم الدين واللغة اشتهروا ببحوثهم ومؤلفاتهم وعضويتهم في المجامع اللغوية.
وتجدر الإشارة، الى ان المؤلف الخالدي، من عائلة زرقين قبيلة أولاد سيدي خالد، التي هاجرت أوائل 1860 من وادي البردي، دائرة عين بسام بولاية البويرة، إلى المشرق العربي وسكنت فلسطين، جده لوالدته الذي هاجر مع مجموعة أحمد الطيب بن سالم، هو قاضي الجزائريين في الشام المسؤول عن أحوالهم المدنية.
وتعرض الباحث، إلى الأماكن التي سكن فيها الجزائريون في منطقة الخيضرية والحيواطية والسويقة، من منطقة الميدان في دمشق، إلى أن استجابت الدولة العثمانية ومنحتهم أراض زراعية في مناطق حوران، جنوب دمشق وفي الغوطة واللاذقية وحلب والجليل الفلسطيني.
وقال: “بتكاثر المهاجرين الجزائريين في سوريا قوي نفوذهم، وأصبح لهم تأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية خاصة منذ 1860، وبدأ يظهر ما يسمى بقرى المغاربة سكانها من مجموعة أحمد بن سالم، من دلس والبليدة وتقزيريت، ومن قبائل عرش وادي البردي، وأولاد عيسى، وأولاد يونس، من منطقة حمزة، التي تمتد بين سور الغزلان والبويرة، شاملة عين بسام وبئر غبالو”.
وهناك جزائريون سكنوا مدنا أخرى في القدس والناصرة وحيفا، وطبرية، والخليل، ولا تزال عائلات جزائرية تسكن مناطق حمص وحماة وحلب واللاذقية.
ويشير الباحث إلى أن أول موجة التهجير كانت خلال الفترة 1846-1847، حيث رحل أحمد بن سالم خليفة الأمير عبد القادر، بحرا إلى بيروت ووجهته دمشق ومعه حوالي 500شخصا من أتباعه وعائلته من بينهم شيخ الزاوية الرحمانية المهدي السكلاوي، والمبارك الطيب، حيث استقبلوا أحسن استقبال.
وموجة التهجير الثانية كانت خلال 1883-1860، مع وصول قبائل عرش وادي البردي، إلى الشام في 1860، ومشاركتهم مع غيرهم من الجزائريين الذين سبقوهم في حماية النصارى، في حين موجة التهجير الثالثة كانت خلال الفترة 1883-1900، وموجة التهجير الرابعة كانت في الفترة 1900-1920.
تنشيط الثقافة والتعليم ببلاد الشام
ساهم المهاجرون الجزائريون في بلاد الشام وبالتحديد بسوريا في تنشيط الحياة الاقتصادية ونشر التعليم، فقد أسس الجزائريون بدمشق جريدة خاصة بهم عرفت باسم “المهاجر”، التي كانت تصدر مرة كل أسبوع منددة بالسياسة، التي تنتهجها فرنسا في الجزائر ومدافعة عن حقوق المهاجرين المغاربة في المشرق العربي ،وقد اشرف على شؤونها المالية الأمير علي بن الأمير عبد القادر الجزائري.
كان ابنه محمد السعيد، يوقع باسمه بعض المقالات في الجريدة.
يعتبر سليم السمعوني، المعروف بسليم الجزائري، ابن أخ الشيخ طاهر الجزائري، الذي رباه رجل الجمعيات السياسية الهامة بين المهجرين الجزائريين في بلاد الشام والوطن العربي، حيث أسس ورفاقه جمعيات في الاستانة بتركيا هدفها تحقيق الإستقلال العربي ومن هذه الجمعيات المنتدى الأدبي، الذي يلتقي فيه العرب المقيمون والزائرون، يلتقي فيه السني، الشيعي، الدرزي، المسيحي، السوري، اللبناني، العراقي، الفلسطيني، المصري،هدفهم مجد العروبة.
كانت تنشد فيه الأناشيد القومية وتلقى المحاضرات في مآثر العرب وحقوقهم، اصدر المنتدى مجلة باسمه يكتب فيها الأدباء والشعراء والعلماء العرب عن كل ما يتصل بالعروبة وتاريخها.
واخذ المهجرون الجزائريون على عاتقهم مقاومة سياسة التتريك ونشر اللغة العربية على أوسع نطاق ممكن، حتى أصبح استعمالها في الإدارة التركية مطلبا سياسيا للأحزاب والقوى القومية.
وقد نشروها على نطاق جماهيري بعكس ما فعلته الإرساليات الأوروبية، حيث حصرت اللغة العربية في النخبة المسيحية، بينما أوصل الجزائريون اللغة العربية إلى الأرياف في سوريا وفلسطين ولبنان عبر المدارس الدينية والعصرية، التي برعوا في تأسيسها.
ووقفوا في وجه البدع والطرق الصوفية، التي كانت تخدم الإحتلال العثماني ،منهم الشيخ طاهر الجزائري وبن يلس، والهاشمي والشيخ محمد المبارك، هذا الأخير من مؤسسي مدارس تعليم البنات يدرس فيها إلى جانب الدين واللغة العربية علوم الرياضيات واللغة الفرنسية والعثمانية.
في حين أقنع الشيخ طاهر الجزائري، الوالي العثماني مدحت باشا، بإدخال التعليم العصري إلى الشام فكانت مدرسة عنبر، وهو الذي أسس مكتبة وطنية وجمع الكتب والمخطوطات من المساجد والزوايا ولا تزال هذه المكتبة قائمة إلى اليوم.
وأسس الجزائريون المدارس وتأليف الكتب في العديد من نواحي المعرفة، التي كانت معروفة آنذاك، وكان الأمير عبد القادر، يقدم أكثر من حلقة تدريس في المسجد الأموي وفي المدرسة الجقمقية، وفي دار الحديث وفي منزله أيضا.
وتذكر مصادر تاريخية، حادثة فض الأمير عبد القادر، نزاعا كان قائما حول إحدى المدارس، التي اشتراها رجل نصراني وحولها إلى خمارة، فاشتراها الأمير عبد القادر، من هذا النصراني بأضعاف سعرها وأعادها مدرسة، مثلما كانت وصار مدرسا فيها، وأعاد الجزائريون الحياة إلى العديد من الزوايا والمساجد، منها جامع الجراح بالحيواطية، والدرويشية، وجامع العناية، والبريدي وغيرها ونشطوا الحياة الثقافية.
وأسس محمد المبارك، المدرسة الريحانية، التي أصبحت إحدى مدارس دمشق المشهورة وأسس ولده محمد بن محمد المبارك، مدرسة النهضة العلمية الصباحية والمسائية، التي كانت تدرس اللغتين العربية و الفرنسية و العثمانية، والعلوم الحديثة إلى جانب العلوم الدينية.
وكذلك الشيخ محمد الشريف اليعقوبي، أسس مدارس في دمشق بالاشتراك مع أل مبارك، ومد نشاطه إلى بيروت ولبنان فبنى كثيرا من المساجد في العديد من القرى وخاصة جنوب لبنان وضواحي بيروت وأقام ثانوية شرعية لتخريج الأئمة ،وفتح الشيخ الهاشمي مدرسة الإرشاد والتعليم، وأنجز الشيخ طاهر الجزائري، العديد من الكتب للتلاميذ والمدرسين.
سار على دربه الأستاذ أحمد الهاشمي، الذي نذر نفسه لعلم الرياضيات، وتطوير وتوسيع المعارف السورية، وكان يرفض منصب الوزير الذي عرض عليه أكثر من مرة ليتمكن من مواصلة جهده وقد سميت إحدى الثانويات دمشق باسمه.
وبرز دور المهاجرين الجزائريين في الآداب والعلوم الإنسانية في التاريخ ،وهناك أربع مؤرخين جزائريين هم صالح السمعوني، احمد بن محي الدين شقيق الأمير عبد القادر، الذي طبع له كتاب بعنوان “كيف دخل الفرنسيون الجزائر” ،محمد بن الامير عبد القادر، الذي أنجز كتابا عن والده بعنوان “تحفة الزائر في تاريخ الجزائر ومآثر الأمير عبد القادر” تؤرخ للأمير عبد القادر والمقاومة الجزائرية.
وهناك القاضي مجاهد مسعود، الذي اختص بكتابة تاريخ الجزائر خلال الثورة الجزائرية، الأمير جعفر بن الأمير طاهر بن الأمير أحمد، درس علم الآثار في فرنسا وتولى منصب مدير الآثار والمتاحف في سوريا وقدم في ميدانه دراسات أثرية عديدة.
وأنشأ ثلاث متاحف في دمشق، حلب، وتدمر واكتشف آثار في تدمر وبصرى ،حقق ونشر مخطوطا مهما هو كتاب “الدارس في تاريخ المدارس” للنعيمي. وظل يشتغل حتى وفاته في 1970 في منصب نائب رئيس المجمع العلمي في دمشق وادخل إلى المجمع إصلاحات عديدة.