شهد تاريخ الجزائر ابان الحقبة الإستعمارية ملاحم ومعارك بطولية قادها مجاهدو جيش التحرير الوطني،ومنها معارك تضامن فيها الأشقاء من تونس وليبيا مع إخوانهم الجزائريين.
في هذا الشهر 4اكتوبر1957 يستذكر الشعب الجزائري والأسرة الثورية ممن بقوا على قيد الحياة معركة إيسيين الشهيرة او مثلما يسميها المؤرخون معركة الكفاح،التي امتزج فيها دماء الشعبين الجزائري والليبي.
تاريخ ومصير مشترك لأبناء المنطقة
تقع إيسيين،التي تعني باللغة الترقية المعرفة و الفهم،جنوب غات على الحدود الجزائرية الليبية ضمن صحراء ليبيا الغربية، والتي كانت معبرا لتزويد الثورة الجزائرية بالأسلحة والعتاد اللازمين لمواجهة الإستعمار الفرنسي.
في هذه المنطقة حدثت معركة أثبتت للعالم مدى تضامن ووحدة الشعبين الجزائري والليبي، والتي ما تزال محفورة في ذاكرتهما إلى اليوم ونحي ذكراها سنويا.
كانت مناطق الحدود الليبية الجزائرية من بين المناطق النشيطة في جبهة الصحراء، بهدف ضرب المصالح الفرنسية الاقتصادية وخاصة الشركات البترولية التي بدأت تنتشر،بحيث عرفت منطقة الجنوب الليبي المحاذية للحدود الجزائرية الليبية، أحداث عسكرية عديدة، لكن أهم هذه الأحداث والتي أخذت أبعادا دولية هي معركة “إيسيين” التي وقعت في أكتوبر 1957.
وأظهرت معركة “ايسيين” على الحدود الجزائرية الليبية من 3 إلى 5 أكتوبر 1957، مدى تلاحم الشعبين الجزائري والليبي في دحر فرنسا وجيشها، امتزجت فيها دماء الشعبين الشقيقين وكان الانتصار حليف جيش التحرير الوطني.
فتحت المعركة جبهة إستراتيجية ساهمت في فك الحصار المضروب على المناطق الشمالية للوطن آنذاك خاصة بعد تضييق الخناق عليها وإقامة خطوط الموت والنار.
انطلقت المعركة حسب مصادر تاريخية وشهادات مجاهدين شاركوا في المعركة بتاريخ 03اكتوبر 1957في منطقة غات، بالقرب من جانت الجزائرية، كرد فعل على الهجومات والمخططات التي باشرتها القوات الفرنسية في المنطقة ،بعد اعتزامها ضرب الجنوب الشرقي للحدود الجزائرية الليبية باعتبارها منفذا ومعبرا هاما لتدعيم الثورة الجزائرية.
يقول المؤرخ محمد العربي الزبيري، ان معركة قرية إيسيين، جنوب غرب ليبيا على الحدود مع الجزائر ،فتحت باب الكفاح ضد المستعمر الفرنسي جنوب شرق الجزائر ،وساهمت في فك الحصار على الشمال بعد اشتداد القتال.
يروي المجاهد عبد الله دباغ، أحد المشاركين في المعركة ممن بقوا أحياء في شهادته لجريدة الشعب ، ان المجاهدين نصبوا كمينا ضد قافلة تموين فرنسية كانت متجهة إلى جانت ،مما رفع معنويات ونفسية الجزائريين،وكان هدف الهجوم تأمين الحماية اللازمة لهذا المعبر الحدودي من خلال توفير حماية أكبر لعمليات نقل الأسلحة إلى الجزائر ،وأيضا افشال مخططات الإستعمار الفرنسي في المنطقة لاسيما بعد اعلانها القيام بما يسمى عملية 176في سردلاس وغات، لتطهير الحدود الليبية الجزائرية من الثوار الجزائريين في سبتمبر 1957.
ويضيف دباغ:”بدأت المعركة في حدود الساعة التاسعة بهجوم لم يتوقعه الجيش الفرنسي، لم يستمر بعد انسحاب الثوار الجزائريين والليبيين من ساحة المعركة بعدم تكافؤ القوى بين الطرفين، رغم ذلك لم تستطع القوات الفرنسية مطاردتهم”.
ويشير محدثنا إلى أن ليبيا كانت قاعدة خلفية ولوجستية للثورة الجزائرية، وكانت بها مستودعات الأسلحة، ومراكز التدريب، وشبكات التسليح، ووفرت إقامة خاصة لقادة جبهة التحرير وأمّنت تنقلاتهم، وأصبحوا يتصرفون بكل حرية دون مراقبة أو إزعاج.
واستعملت الأراضي الليبية لنقل الأسلحة من المشرق تحت رقابة الحكومة الليبية، وبتغطية منها.
ويؤكد الدكتور محمد ودوع أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر02، في دراسته أن الحكومة الليبية وضعت مطاري بلدة نالوت، تحت تصرف القيادة الجزائرية بعد إصلاحهما من طرف الحكومة المصرية، وشددت على ضرورة دخول السلاح من مصر إلى ليبيا بواسطة الطائرات وبعلم رئيس الحكومة الليبي بغرض تأمين العملية، إضافة إلى العمل على شراء السلاح بليبيا وتوفير كل الشروط الضرورية لإنجاح العملية.
ويضيف:” إن موقف ليبيا المدعم للثورة الجزائرية وقضيتها العادلة لم يرض السلطات الإستعمارية الفرنسية، لذا حاولت جاهدة تسميم الأجواء على ثورة الجزائريين،وراحت السلطات الاستعمارية الفرنسية تبذل كل الجهود من أجل عزل الجزائر عن أقطار المغرب العربي بالدرجة الأولى منها ليبيا التي حاولت جرها إليهـا، لكنها فشلت في مسعاها”.
ويؤكد بعض الإعلاميين الليبين أن القبائل الليبية اتحدت لتشكيل نوايا لدعم الثورة الجزائرية من بن غازي وصولا إلى غاية طرابس والجنوب الليبي.
ويذكر محمد قنطاري، أحد المجاهدين، الذين كانوا ينشطون في المناطق للحدود الجزائرية الليبية، أن الأمر الهام الذي جعل الثورة الجزائرية تنجح في بسط نفوذها بالمنطقة بكل سهولة هو التركيبة الاجتماعية لسكان مناطق الحدود الجزائرية الليبية، بحيث هناك اختلاط وانصهار في الأنساب والقرابة بين الشعبيين.
يقول:” نجد جزائريين الأصل يقطنون في الجنوب الليبي، ومنهم من أصبح ضابطا في الجيش الليبي، و استمرت العلاقات بين الأسر والعشائر، وهذا الانصهار الاجتماعي هو الذي سهل من مهمة نشاط الثورة الجزائرية وإحباط مناورات الاستعمار الفرنسي”.
شهادات جنود ليبيين
وفي شهادات اجريت منتصف السبعينيات مع جنود ليبيين سابقين شاركوا في معركة إيسيين ونشرت في مجلة المسلح الليبية بتاريخ 06اكتوبر 2017، يروي مسعود الكالمي، :”…كنا نعمل انذاك في كتيبة عمر المختار ، المتمركزة في مدينة الزاوية وكانت رتبتي جندي أول عندما صدرت الأوامر بالذهاب إلى فزان، للتصدي للهجوم الفرنسي على إيسيين -غات،وبناءا على ذلك استنفرت الكتيبة وألغيت الإجازات وانطلقنا من هناك”.
ويضيف:”أذكر كان الوقت خريف 1957واستغرقت الرحلة ثلاثة ايام في طاويات لاندروفر وشاحنات كومر ،وتمركزنا في غات، التي يتواجد بها الكثير من الثوار الجزائريين ثم قسمنا إلى مفارز وكلفنا بالقيام بالدوريات على الحدود،وكان تسليح الكتيبة بنادق 303إنجليزية نوع فكرس ورشاش براون وغدارات ووسائل النقل الطاوية اللاندروفر وشاحنات كومر”.
ويقول أيضا:”كنا بقيادة الضباط أمر الكتيبة ثوري الصديق ومعاونه محمد عبد المولى، وامر السرية سالم الفرجاني، وحميد المدفعي ومحمد عبد المولى، وعثمان عباس ،وهو من أبناء الجنوب من بلدة براك وكان في اجازة وإلتحق فورا بعد ان قطع اجازته”.
ويروي مسعود الكالمي ،انه بعد وصولهم منطقة إيسيين، احتلوا مواقع دفاعية مجهزة سلفا في منطقة تكثر بها أشجار الأثل ولم يدفع الفرنسيون بقوات برية لمواجهتهم بل قصفوهم بطائرة اصيب منهم جنديان بكسور وجروح، ولحسن حظهم فإن الرمال المحيطة بالموقع خففت من الخسائر لأن القذائف تغوص فيها.
ويضيف:”قامت الطائرة برمي السيارة، التي أقلت المتصرف من إيسيين لكنه نجا..سمعنا انهم حاولوا خطف متصرف غات، بطائرة هيلوكوبتر تنزل في مزرعته لأنه زعيم الطوارق،وفي حالة القبض عليه وارغامه على إصدار امر للطوارق بإيقاف دعمهم للثوار الجزائريين سيفعلون لان الطوارق يسمعون كلام شيوخهم،وفي ذلك الوقت هرب إلى الجزائر، وكانت حركة الثوار الجزائريين المنطلقين من غات، نشطة جدا واستطاعوا تدمير رتل فرنسي فيه بعض العملاء الجزائريين وقال الفرنسيون ان الذي يحاربهم هو الجيش الليبي….”
نتج عن هذه المعركة خسائر مادية وبشرية من الطرفين،باستشهاد عدد من المجاهدين الجزائريين والليبيين، واستحوذ جيش التحرير الوطني على عدد لا بأس به من الذخيرة والأسلحة،اضافة إلى القافلة الفرنسية،وبالمقابل،عرفت القضية الجزائرية تأييدا دوليا،لاسيما بعد تهديد ليبيا بعرض المسألة على مجلس الأمن الدولي انذاك.
كان لمعركة إيسيين نتائج ايجابية،حيث فتحت مجالا أوسع لجبهة التحرير الوطني في المنطقة بتمركز واسع لجيشها في الحدود وامداد الولاية السادسة التاريخية بالأسلحة والذخيرة ودعم قواعد الثورة بوادي سوف والطاسيلي.
فتح جبهات جديدة بجنوب الصحراء
تشير التقارير العسكرية الفرنسية آنذاك إلى انطلاق المعركة من الأراضي الليبية يوم الثالث من أكتوبر 1957 على الساعة 9.15 صباحا، بدأت مهاجمة النقطة الحدودية تينالكوم انطلاقا من وادي “إسيين” بإنقسام قوات المجاهدين والليبيين في ثلاثة أقسام لضرب ثلاثة أهداف بتيناكوم.
تمكن المجاهدون من إصابة أهدافها بدقة رغم العدد الهائل من القوات العسكرية الفرنسية منها كتيبة صحراوية مؤلفة من اللفيف الأجنبي بقيادة “لويروست”، كتيبة صحراوية محمولة ومعها 7 سيارات عسكرية بقيادة “منيوت”، مدافع رشاش ومن معها من عسكريين بقيادة “بوست” ، قوات أخرى متعددة بقيادة “بوتي”.
في حين القوات الجوية التي دخلت المعركة في حدود منتصف النهار إلى غاية الساعة الثانية تمثلت في ثلاث طائرات مطاردة من نوع م د315 MD وهي تابعة للفيلق العامل وراء البحر، حاولت ملاحقة المجاهدين داخل الأراضي الليبية والحصيلة استشهاد حوالي خمسين مواطنا ليبيا.
تكررت معركة إسيين بعد أقل من سنة بتاريخ الـ25 سبتمبر 1958 لكي ترد فرنسا بقوة ، لكن هذا لم يثبط من عزيمة المجاهدين الذين دمروا العديد من الأليات العسكرية التي ما تزال اثارها إلى اليوم.
وتؤكد مصادر تاريخية أنه من نتائج المعركة اعتماد الثورة استيراتيجية جديدة وهي فتح جبهات جديدة تشتت بها القوة الفرنسية والإبتعاد عن الخطوط الجهنمية (شال وموريس)، الكفاءة التي سيرت بها الثورة المعركتين الأولى والثانية في منطقة صحراوية، ودور الأشقاء الليبيين في مساندة الثورة الجزائرية وكذا التوقيت الذي جاءت فيه المعركة وهو توقيت اتساع الإعتراف بالقضية الجزائرية في المحافل الدولية وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة، اضطراب حال فرنسا التي أصبحت في حرجين الأول خارجي أمام المجتمع الدولي والثاني داخلي أمام الرأي العام الوطني الفرنسي.