شرعت فرنسا في تطبيق سياستها الاستعمارية في منطقة القبائل بداية من تكريس الاحتلال النهائي للمنطقة سنة 1857، بقيادة الجنرال جاك لوي راندون، واستكملها ماك ماهون خلال الحكم العسكري ( 1830-1870م)
هذا ما يؤكده البروفيسور مزيان سعيدي، أستاذ منتدب مكلف بتدريس التاريخ العسكري والاستراتيجية العسكرية بالمدرسة العسكرية العليا للإعلام والاتصال بسيدي فرج، ورئيس المجلس العلمي بالمتحف الوطني للمجاهد، في حوار مع جريدة ” الشعب ” ، ويشير إلى أن سكان منطقة القبائل قاوموا بشدة المشروع الاستدماري الفرنسي الخبيث لفصل المنطقة عن الوطن : الجزائر.
الشعب: هل من ملخص عن مؤلفكم الجديد، “السياسة الاستعمارية الفرنسية في منطقة القبائل، ومواقف السكان منها 1871-1914″، ولماذا اخترتم هذه الفترة بالتحديد؟.
البروفيسور مزيان سعيدي: الحقيقة أن هذا الكتاب، الذي صدر في جزأين، في طبعة رابعة، هو خلاصة أطروحة دكتوراه، أنجزتها على مدى أكثر من ثمان سنوات، من 2001 الى 2009، تاريخ المناقشة كان في أكتوبر 2009، وقد توسعت في إخراج هذا الكتاب فيما بعد من خلال جملة من الأرشيفات الجديدة، التي توفرت لدي.
اخترت منطقة القبائل تحديدا والإطار الزماني 1871-1914 لموضوع دراستي، لأن منطقة القبائل تستهوي كل الجزائريين، وسكان المنطقة جزء من سكان الجزائر، نريد بذلك التوجه نحو كتابة تاريخ المنطقة أو التاريخ المحلي ، لأن هذا الأخير جزء من التاريخ العام للجزائر.
ما حرّكني وهزّ كياني هو الردّة الحضارية، التي عرفتها المنطقة سنة 2002، والتي كان من وراءها بعض العلمانيين واللائكيين، الذين هم من منطقة القبائل حقيقة ، لكن لا يمثلون المنطقة في واقع الأمر، خاصة وأنّ دعواهم كانت متأثرة بالثقافة الفرنسية، و مرتبطة أشد الارتباط بالمفاهيم العلمانية الفرنسية وطروحاتها.
فهل مثل هؤلاء يمثلوننا أو يمثلون سكان المنطقة فعلا ، ومنه حاولوا نزع الصبغة الإسلامية للمنطقة وأنّ هذه المنطقة لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولكن الواقع ينطق بالقول أنّ معظم رجالات الإصلاح من المنطقة، وأنّ أكبر منطقة في الجزائر من حيث عدد من الزوايا هي منطقة القبائل.
ومن أكبر المنافحين عن اللغة العربية والحضارة الإسلامية بشكل عام هم سكان هذه المنطقة، لذلك فمنطقة القبائل حافظت على الهوية والأصالة الحضارية للأمة الجزائرية .
هذه الأمور حركتني كباحث، فإذا كان المؤرخ لا يتفاعل ولا يعيش زمانه فهو ليس مؤرخا، فواجب عليه أن يحيي هذه الأمور التي مضت ويدرسها بامتعان ويغربل الوثائق ويقارن الأحداث … ، لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.
فيما يخص اختياري للإطار الزماني للدراسة ، 1871-1914 فمعلوم أنه في سنة 1857م تمكن الجنرال راندون، من قمع مقاومة لالا فاطمة نسومر، واحتلال منطقة القبائل بشكل رسمي نهائي، حيث لم يتسن للفرنسيين احتلال المنطقة إلا بعد 27 سنة من احتلال مدينة الجزائر في 1830، ما يدل أنّ هذه المنطقة عرفت مقاومة لهذا الاستعمار الزاحف على الجزائر بشكل عام، بدءا من إبرام معاهدة الاستسلام في 5 جويلية 1830، لأن سكان منطقة القبائل أظهروا مقاومة باسلة، وبالتالي تاريخ الشروع في تطبيق السياسة الاستعمارية في المنطقة
1857 بدأت معالمها الأولى بعد احتلالها، لكن أسسها التنظيمية بدأ تجسيدها مع إحلال النظام المدني في الجزائر سنة 1871م .
وأشير إلى أن الحكم المدني لا يعني أن الحكام الذين كانوا يحكمون الجزائر مدنيين، والدليل ان أول من حكم الجزائر في 1871 هو الأميرال دوقايدون، وهو رجل عسكري، فمعناه أنّ القوانين التي أصبحت تسير المستوطنين الأوروبيين وخاصة الفرنسيين في الجزائر هي القوانين المدنية، بينما الجزائريين، أصحاب الأرض بمن فيهم سكان منطقة القبائل، تسيرهم قوانين عسكرية، عوملوا معاملة الأنديجينا منذ 1830 رغم أن قوانين الأنديجينا سيصدر في شكل قانون نهائي منظم ببنوده سنة 1881 .
ارتكزت دراستي على تاريخ 1871 لأنها بداية تطبيق “السياسة القبائلية”، وفق المنظور الإستعماري، الذي أطلق هذه التسمية، لفصل منطقة القبائل عن كامل الجزائر من خلال سياسة هدامة.
توقفت دراستي في 1914 لأنها سنة بداية الحرب العالمية الأولى، فبين 1914 و1918 فرض على الجزائريين التجنيد الإجباري ، وفي 1919 ظهر نوع جديد في المقاومة الجزائرية سميت بالمقاومة السياسية في أدبيات الحركة الوطنية. الجزائرية
كما أنّه في 1914 بدأت تظهر ملامح فشل “السياسة القبائلية”، التي أرادها هؤلاء الفرنسيون تثبيتها في القرن خلال القرن 19 وبداية القرن 20م في الجزائر.
الكاردينال لافيجري حاول لبننة الجزائر وتقسيمها إلى كيانات
لماذا حظيت منطقة القبائل باهتمام السلطات الاستعمارية الفرنسية على وجه خاص؟.
سؤال وجيه، وهو لب الموضوع، حظيت منطقة القبائل بالاهتمام وبسياسة هدّامة لها مميزاتها، ليس معناه ان المناطق الأخرى كانت ستنجو من السياسة الاستعمارية الفرنسية ، فالسياسة القبائلية جزء من السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر ككل، والدليل هو ما كان يطمح إليه الكاردينال لافيجيري، وهو رجل دين، زاوج عمله الديني السياسي مع دوقايدون، الحاكم العام في الجزائر.
فالكاردينال لافيجري، رغم أنّه كانت له سياسة دينية تنصيرية إلا أنه كان رجل سياسة بامتياز.
بدأ نشاطه في منطقة القبائل في 1872، وحاول تكريس هذه السياسة بمحاولة لبننة الجزائر وجعلها كيانات طائفية، علما أنّه زار لبنان في 1860، خلال الفتنة الطائفية بين الدروز والموارنة.
وقد أُرسل الكاردينال لافيجيري، من طرف البابا لمقابلة الأمير عبد القادر، وشكره على العمل النبيل الذي قام به عندما أنقذ 15 ألف ماروني مسيحي وحاول تقبيل يدة فتعفف الأمير عن ذلك لأنها ليس من شيمه .
فلبنان تضم المارونيين والدروز وغيرها من الطوائف الدينية ، لذلك أراد نقل هذه التجربة الى الجزائر بإنشاء كيانات طائفية بدءا بمحاولة إنشاء ” الكيان القبائلي ” ثم “الكيان الشاوي”، والميزابي ثمّ الكيان الترقي، وهكذا نصل إلى المسألة التي كان يتوخاها وهي لبننة الجزائر وجعلها كيانات طائفية.
لما باشر لافيجري سياسته التنصيرية، كان يتوخى النتائج على المدى البعيد أي على مدى عشرة قرون، مثلما أكده كاتبه الخاص قريسنميير ( كاتب سيرته التنصيرية في مجلدين على مدى 25 سنة قضاها في الجزائر ). كما أنّ مدارس جول فيري، نبتت في المنطقة وأضحت تحضر لمشروع الإندماج الكامل أو السلخ الحضاري لبسط الكفالة الحضارية، لان فرنسا لم تكن تتوخى النتائج على المدى القريب فحسب.
بل إن أمكن تحقيق فهدفهم المركزي : تنفيرنا من ديننا ومحاولة إنشاء ما يسمى بفئة مهلهلة الهوية في منطقة القبائل من خلال عامل هام هو التمكين للثقافة الفرنسية بالمنطقة والتبجح بالثقافة الأمازيغية، والتنصل من العروبة ومحاربة الإسلام بالمنطقة .
إنّ المعالم الأولى لتطبيق هذه السياسة الهدامة هي طرح مسألة ” الأسطورة القبائلية ” ، التي ذكرتها في الفصل الثالث من كتابي بعنوان ” الأسطورة القبائلية بين النشأة والتفعيل “.
كانوا يتوهمون أن منطقة القبائل هي أقرب إلى تطبيق السياسة الاستعمارية على سكان المنطقة، كما أنّ الحيز الجغرافي للمنطقة يساعد على ذلك . فهي أقرب إلى العاصمة، وهي من أكثف المناطق السكانية في الجزائر بحوالي 300 ألف نسمة في الكيلومتر مربع، ومجتمعين في مناطق جبلية، وهذه الميزة لها تفسيرها التاريخي منذ الفتح الإسلامي وخلال العهد العثماني بالجزائر.
فالفرنسيون يستدلون بأنّ إسلام القبائليين سطحي، وأن أوّل ديانة اعتنقوها هي المسيحية قبل الفتح الإسلامي. فلمّا نقول إنهم تقبلوا المسيحية فنقصد بذلك المسيحية الأولى السمحة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قبل أن يصيبها التحريف والتزييف، وبعدها رجع الأمازيغ إلى وثنيتهم ونافسوا المسيحية باسم الهرطقة المعروفة في التاريخ القديم، والدليل أنّهم قاوموا الاستعمار الوندالي والروماني والبيزنطي، ولما جاء الفتح الإسلامي وجدوا البيزنطيين، لكن عدد المسيحيين الأمازيغ كان قليلا جدا، فالإسلام أحدث فيهم هذا الامتزاج الحضاري وجعلهم يساهمون في الفتح الإسلامي ونشر وتفعيل الحضارة الإسلامية.
فقد ذكر الفرنسيون أنّ إسلامهم فاتر ومن شأن المسيحية أن ترجعهم إلى حظيرة هذا الدين وأكناف الحضارة الغربية، وبالتالي فهم أقرب إلى تقبل المسيحية من العرب. وحسب منظورهم توجد إثنيتين في الجزائر: الأولى العنصر البربري الأصيل، أهل البلد، وفيه عنصر دخيل وهو العربي الذي جاء من شبه الجزيرة العربية، وفرض الإسلام على البربر بقوة السيف، واستدلوا على ذلك بالمواصفات البيولوجية والفيزيولوجية.
وبحسبهم فإنّ البربري هو كلّ أبيض وأشقر، عيناه زرقاوين، فهو قريب إلى السكان الفرنسيين، وأكثر شبها بالنورمانديين وسكان البيكاردي ومنطقة بريطانيا (البروتون) .
فبعض مؤرخي فرنسا المتشبعين بالأسطورة القبائلية، يذكرون في كتاباتهم التي تصفحتها أنّه لو تنزع اللباس من النورمندي وتلبسه للقبائلي تجده يشبه الأوروبيين وكأنه فرنسي، والذي شعره أشعث هو عربي لأنه قدم من شبه الجزيرة العربية، ومعروف أنّه يتحمل الحرارة فهو عنصر بدوي لا يتقبل الديانة المسيحية ، بحسب منظورهم.
وفي هذا الصدد وجب التذكير أنّ التسمية الحقيقية هي الامازيغ نسبة إلى مازيغ بن كنعان بن نوح عليه السلام، فنحن أمّة حامية.
لعب الفرنسيون على بعض الأوتار الحساسة لمحاولة استمالة العنصر القبائلي بالدرجة الأولى، حتى لافيجيري، باشر عمله في منطقة القبائل قبل غيرها من المناطق، إيقانا منه أن هذه المواصفات يمكن أن تشجع على الوصول إلى خلق ” كيان قبائلي ” منفصل كمقدمة لإحداث المشروع الهدام الذي سميناه لبننة الجزائر.
كما تمكّن غلاة المستوطنين من التأثير على السياسة المنتهجة بكامل الجزائر فكان أن شرعت السلطات الاستعمارية الفرنسية في تطبيق سياستها في منطقة القبائل في جميع الجوانب.
تميزت هذه السياسة بكونها هدامة، جنّدت لذلك مختلف معاول الهدم لتكريس الهيمنة الفرنسية في أسمى معانيها، فحاولت تطبيق سياسة قبائلية مستمدة من أسطورة، أو وهم قبائلي عمل على إذكائه وتفعيل حركيته وتطبيق مرتكزاته سياسيون وعسكريون ورجال دين وأكاديميون فرنسيون على رأسهم السياسي إيميل صاياتي والبرلماني موريس وارني، السيناتور كلمانجيران، ومن العسكريين راندون ودوقيدون وشانزي.
ومن رجال الدين قطب التنصير الديني المسيحي في القرن الـ19، الكاردينال لافيجري، ومن الأكاديميين ماسكاري وريني باسي، هنري فورنيل، أوغسطين برك ودومنيك لوسياني وغيرهم كثير.
من المعروف أن سكان منطقة القبائل قاوموا الإحتلال الفرنسي ببسالة، هل يمكن ذكر أهم الإنتفاضات، التي قام بها سكان المنطقة منذ الغزو الفرنسي للجزائر؟.
الأمازيغي منذ القدم معروف بأنه عاشق للحرية، لا يحب من يتسلط عليه، وهي سمة متأصلة في الجزائري إلى يومنا هذا.
الجزائري كريم إذا أحسن التعامل معه، لكن إذا عومل بطريقة لا حضارية ينتفض لأن لديه جينات ثورية لا يحب الظلم، والدليل أن أكثر الشعوب المتأثرة بما يحدث في فلسطين اليوم هم الجزائريون والأقرب إلينا في الأصول هم اليمنيون.
تجلت المقاومة منذ دخول أول وافد هم الفنيقيون، الذي تحولوا إلى قرطاجيين بتأسيس قرطاجة في 814 قبل الميلاد، جاؤوا بصفة تجار مسالمون فسالمناهم، وأنشأوا لنا ما يسمى المرافئ التجارية، لكن بعدما جاء الرومان بصيغة العدوان والاستعمار، وهو أطول عهد استعماري في القديم، قاومناهم وبعدهم الوندال ثمّ البزنطيين وحتى الفتح الإسلامي في بداية عهده ظنا منهم أنّ هؤلاء لا يختلفون عن الاستعمار السابق.
تقبل الأمازيغ الإسلام لأنه كان دين الأمر بالمعروف والنهي عن الممنكر كما أنّه يدعو إلى الأخلاق الحسنة وهي أساس الرسالة الإسلامية. والأمازيغ معروفون بأخلاقهم إلى يومنا هذا كمعظم الجزائريين، فوقع امتزاج مع الفاتحين والعلماء، والدليل مشاركة الأمازيغ في الفتح الإسلامي فيما بعد لنشر الإسلام في الأندلس، فتكوّنت فيها أزهى الحضارات الإنسانية ما تزال أثارها إلى يومنا هذا.
عرف سكان المنطقة بمقاومات خلال العهد العثماني فهم من الذين أطلقوا عليهم تسمية القبائل، لأنهم كانوا يتمردون على الاستبداد الذي مارسه العثمانيون، خاصة في قضية الضرائب، وكانوا ينتفضون ضدهم واجتمع سكان المنطقة بحيز جغرافي جبلي عرف بمنطقة القبائل واحتفظ بهذه التسمية الفرنسيون بعد احتلال الجزائر.
وقبل ذلك كله، كانوا معروفون بتسمية الزواوة، أي منذ القرن الـ13 لما ذكره الغبريني في كتابه ” عنوان الدراية لمن عرف من العلماء في منطقة بجاية ” . لذلك كان يطلق تسمية الزواوة على أساس أنّه من منطقة الزواوة أي “ايقاوون” باللغة الأمازيغية.
مقاومة سكان منطقة القبائل لم تنطلق مع بوبغلة، فقد شارك سكان المنطقة في صدّ العدوان عن مدينة الجزائر، بدءا بسيدي فرج ومعركة سطاوالي.
شارك فيها ما بين 15 إلى 30 عرشا، ( وفق المصادر ) وكلّ عرش كانت له راية خاصة به دفاعا عن الجزائر، واشتهر منهم القناصة لامتلاكهم بندقيات طويلة لها وقعها في الحرب .
علما أنّ ما ذكرته مستمد من مصادر فرنسية، تحدث عن ذلك الكولون روبان، في مجموعة مقالات عن منطقة القبائل في المجلة الإفريقية.
وستستغل فرنسا شدة بأس سكان منطقة القبائل بإنشاء ما يعرف بفرقة الزواف من قبل الجنرال كلوزيل في 1831، فهناك من باع ذمته للفرنسيين، وهنا نشير أنّه وقعت خيانة عند دخول الفرنسيين ببجاية في 1833 كما تعرض بوبغلة عند اغتياله للخيانة.
بداية من 1840، ستتخلى عنهم فرنسا بإدخال عنصر اللفيف الأجنبي، وهم مرتزقة في الجيش الفرنسي الذي يسمى جيش إفريقيا، وفي القرن الـ20 انضم إليهم بعض السينغاليين الذين جلبوا من المستعمرة الفرنسية السنغال .
خلال مقاومة الأمير عبد القادر، عين أحمد بن سالم، خليفة له في منطقة القبائل ككل، حيث زار الأمير المنطقة حتى أنّه وصل منطقة يسر، بايعوه وامتثلوا لأوامره، جاهدوا مع في بوبغلة، من 1851 الى 1854، وكان لهم بأس شديد خلال المقاومة الأكثر شهرة بالمنطقة هي مقاومة لالا فاطمة نسومر، من 1854 إلى 1857، والتي أبلى فيها سكان المنطقة بلاء حسنا.
اشتهرت المنطقة بهذه المقاومة ونسبت إلى هذه المرأة الصالحة، التي أغمط حقها، فهي امرأة زاهدة، متصوفة وامرأة جهاد، كانت لها خلوات مع ربها، ومقدمة للطريقة الرحمانية لذلك سميت لالا، قاومت ست جنرالات.
حشدت قوات الاحتلال الفرنسي قوات رهيبة جدا وتمكنوا من القضاء على هذه المقاومة في آخر معركة إيشريدن الثانية، وأبادهم الجنرال السفاح راندون، صبيحة عيد الفطر، وتمكن من احتلال منطقة القبائل في 1857.
وسيستكمل فيما بعده الحاكم ماك ماهون، ما قام به السفاح راندون، الذي كانت إحدى شوارع العاصمة تحمل اسمه. وقد ناديت مرات عديدة بتغيير أسماء شوارع العاصمة خاصة وهذا ما سيحدث فيما بعد والحمد لله على ذلك حتى لا يحمد ذكرهم .
تأخر تطبيق السياسة الاستعمارية الفرنسية حتى بداية العهد المدني سنة 1871، وهذا راجع للمقاومة العسكرية والحصانة، التي كانت تتمتع بها المنطقة حيث كانت تعج بالزوايا التابعة للطريقة الرحمانية.
إن الوضع المأساوي الذي عاشته منطقة القبائل بين 1871 و1914، استوجب من السكان تضحيات جسام وصبر على الشدائد ومجاهدة للنفس وإيمان راسخ لمناهضة هذه السياسة الهدامة، والتي انبجست منها شخصيات وطنية خلدها التاريخ، فكان محركها الأساسي العقيدة الاسلامية التي ترسخت في القلوب.
فمنطقة القبائل أنجبت مولود قاسم ايت بلقاسم، الشيخ الطاهر آيت علجت، جمال قنان، وغيرهم.
ذكرتم في مؤلفكم الجديد أن السلطات الإستعمارية الفرنسية، أنشأت أكثر من 146 مركزا استيطانيا، ما هي البدايات الأولى للاستيطان بمنطقة القبائل، وما هو موقف السكان منها؟.
شرع في تطبيق السياسة الاستيطانية في العهد المدني تحديدا سنة 1872، وقسموا المنطقة إلى قسمين، القبائل الكبرى من نهر يسر إلى أعالي جرجرة، والقبائل الصغرى، التي تمتد من وراء جبال جرجرة إلى وادي الصومام، ثم وسعت إلى منطقة القل وتتجاوز جيجل وجبال البابور. كما قسمت القبائل الكبرى إلى القبائل العليا والسفلى فالمنطقة معروفة بقلة الأراضي الزراعية خاصة تلك القريبة من العاصمة.
بعد فشل ثورة المقراني والشيخ الحداد في 1871، صادرت الإدارة الإستعمارية 500 ألف هكتار من كل القبائل التي شاركت في المقاومة ، علما أنّ الشيخ المقراني جنّد 25 ألف مجاهدا بينما الشيخ الحداد، شيخ الزاوية الرحمانية جنّد 125 ألف مجاهدا من كل القبائل. ومن أصل 500 ألف هكتار المصادرة منحت 100 ألف هكتار للوافدين الجدد وهم الألزاسيون واللوران، فكانت أول مستوطنة هي مستوطنة أوسون فيل تادمايت حاليا ) سنة 1872م .
ثم ّ بدأت المستوطنات تكثر إلى أن وصلت 146 مركزا استيطانيا.
شرحت في مؤلفي كيف حوّلت هذه المناطق إلى مستوطنات وإنشاء الإدارة الفرنسية لما يسمى البلديات الكاملة الصلاحيات والبلديات المختلطة كأسلوب لمحاولة تشجيع هؤلاء على الاستيطان من خلال نمط استيطاني فرنسي.
استحدثوا البلديات الأوروبية، التي يقطنها المستوطنون الأوروبيون وتسيرها القوانين نفسها المعتمدة في فرنسا، مثلا تيزي وزو، التي أصبحت بلدية في 1875. في البداية كانت بلدية مختلطة ثم أصبحت بلدية أوروبية.
وفيما بعد بدأت تنشئ بلديات مختلطة تضم عنصر جزائري تسيره قوانين عسكرية والعنصر الأوروبي تسيره قوانين مدنية.
أبرز قانون استيطاني سيناتوس كونصولت
ما هي أهم القوانين الصادرة عن الإدارة الإستعمارية لتقنين الإستيطان؟.
إنّ أبرز قانون استيطاني هو قانون سيناتوس كونصولت sénatus consulte في 1863، الذي فتّت الملكية العقارية الجزائرية، لأنها كانت ملكية جماعية خاصة ملكية العرش، الأراضي المشاعة وأراضي الوقف، فالإدارة الإستعمارية عملت على تفتيت هذه الملكية الجماعية إلى فردية واستحدثت الموثق. وفرضت عقود الملكية
ومن المعروف أن الموثق غير معروف لدى الجزائريين في العهد العثماني، لأن الملكية كانت تتوارث أبا عن جد، العرش هو الذي يقر ملكية الأراضي، بدءا من شيوخ القبيلة.
فلديهم نظام تاجماعت وهو نظام محمود مستمد من الشريعة الإسلامية ، مازال إلى يومنا هذا عمليا في المنطقة .
فقلد أرغموهم على بيع الأراضي التي لم تصادر بثمن بخس، جمعت وأصبحت ملكية للدومين الفرنسي لتوزعها على المستوطنين، بينما الجزائريون أضحوا لا يتمتعون بحق الملكية، من يمكنه الشراء او امتلاك أرض هم الباشاغاوات والقياد، وهم موالون للإدارة الاستعمارية.
قانون آخر فتّت الملكية العقارية هو قانون وارني سنة 1873. هذا البرلماني الذي حمل القانون اسمه كان يمثل المستوطنين الفرنسيين في البرلمان الفرنسي، وهو من غلاة المستوطنين، وهو من عمّم الملكية شجّع على توزيعها على المستوطنين، لذلك توافد عدد كبير جدا من المستوطنين في مرحلة الحكم المدني لتوفر لهم عامل أساسي هو الأمن وفق المنظور الفرنسي واليد العاملة الجاهزة .
وللتوضيح، فإن مصطلح ” استعماري فرنسي استيطاني ” معناه اتخذ الفرنسيين الجزائر وطنا جديدا لهم، وهذا أكبر جرم فرنسي في الجزائر وهو محاولة إلغاء وجود دولة كانت قائمة واستغلال العنصر الجزائري، الذي يمتلك مقوماته الحضارية وجعله أهلي يعيش على هامش الحضارة أكثر من ذلك بجعله أنديجان، سلبت منه أراضيه، وحورب في ذاته، علما أنّ بداية الإستيطان الفعلي الفرنسي في الجزائر كان مع الجنرال السفاح بيجو.
فهو رجل عسكري، كان يُرغّب الضباط العسكريين الذين أكملوا خدمتهم العسكرية في الجزائر للبقاء في بلادنا، منحهم أراضي القبائل التي صادرها، ثم للمستوطنين الذين كثر توافدهم إلى الجزائر كبيرا، خاصة بعد فشل المقاومة المنظمة للأمير عبد القادر وأحمد باي.
تجدر الإشارة إلى أنّ التوسع الإستعماري الفرنسي بدأ بالمناطق الساحلية ثم التلية ثم الداخلية. فأوّل مستوطنة أنشأت كانت في بوفاريك في 1836، ولم يباشر الاستيطان بمنطقة القبائل إلا في 1872 بسبب الظروف التي ذكرتها سابقا.
قانون الإستيطان أثّر على النسيج الإجتماعي والإقتصادي للجزائريين
ما هي تبعات هذه السياسة الجهنمية على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للجزائريين؟
هذه القوانين أثرت سلبا على الجزائريين، خاصة أن منطقة القبائل معروفة بأنها فقيرة اقتصاديا، مّما كان له أثرا كبيرا على تشجيع ما يسمى المقاومة السّلمية أي الهجرة.
ثلاث أخماس المهاجرين في فرنسا من منطقة القبائل، بدأت الهجرة بالمنطقة قبل الحرب العالمية الأولى، وتحديدا هجرة جماعية معتبرة بعد فشل ثورة المقراني والشيخ الحداد، لأنه صعب على هؤلاء البقاء في تلك المنطقة والكثير منهم ذهب إلى تونس والشام وفرنسا، لأن المنطقة معروفة بأنها فقيرة جدا إلى يومنا هذا، فهي لا تتوفر على أقطاب صناعية.
وبالتالي فإنّ الأراضي، التي صادرتها الإدارة الاستعمارية ساهمت في تفقير المنطقة، بغض النظر عن النظام الضريبي الفرنسي المجحف في حق الجزائريين، واستحداثها ضريبة سميت “اللزمة القبائلية”، وتعني أنه على كل فرد دفع ضرائب بحسب عدد أفراد العائلة، عدا ضريبة الخراج والزكاة والعشور وأخرى . كما أن قانون الأهالي فرض عليهم.
فكلّ من يرعى ماعزه في الغابة دون علم حراس الغابات يدفع غرامة، ونفس الشيء بالنسبة للانتقال من قرية إلى أخرى، يجب ان يكون لديه رخصة حتى لا تضاعف له هذه الضريبة.
وصدر قانون اخر في 23 مارس 1882، ما تزال أثاره إلى يومنا هذا، هو قانون الحالة المدنية الذي غيرت فيه فرنسا ألقاب الجزائريين، وقطعت به الوصال التاريخي للأسرة الجزائرية، وأصبحت عائلات جزائرية عموما تحمل ألقابا تخدش الحياء.فهي لم تفرق بين قبائلي وغيره من الجزائريين .
عملت فرنسا الاستعمارية على تشويه البنية الاقتصادية للجزائر، باستحداث زراعات تجارية، كما حصل في منطقة برج منايل، المعروفة بزراعة العنب أي الكروم، وبالتالي كثرت زراعة الكروم لإنتاج الخمور، حتى أصبحت الجزائر منطقة تصدير نوع محبوب بالنسبة للفرنسيين هو الخمر الأحمر الجزائري.
ما رأيك في الدراسات التاريخية، التي تتناول التاريخ المحلي هل هي كافية؟
هي جزء من التاريخ العام، حبذا لو نقدم دراسة عن كل مدينة مثلما فعل المؤرخ الكبير ناصر الدين سعيدوني، الذي خص ّكل مدينة بمجلدات، منها قسنطينة ( 3 مجلدات )، ما يدلّ على ثراء الجزائر منذ القدم إلى يومنا هذا.
نحن نشجع التاريخ المحلي شرط أن لا يكون لخدمة أغراض سياسية وإيديولوجية، لأن المؤرخ لابد أن يتحلى بالموضوعية إلى أقصى حد وهذه من الصعوبة بمكان، لأنّ التاريخ علم غير محايد وثانيا لا تتبنى ايديولويجية معينة، فالمؤرخ يجمع ولا يفرق.
فإذا كانت لدى المؤرخ نية التفرقة وزرع الفتنة والمفاضلة في سرد الأحداث فإنّه لا ينجح في مشروعه الحضاري، كما أن التاريخ المحلي تشجعه بعض الجامعات، وهو أمر محمود مثال ذلك جامعة وادي سوف، ستشجع الدراسات الخاصة بمنطقة وادي سوف، وجامعات بسكرة ، الأغواط وغرداية والبويرة وتيزي وزو وتلمسان تقوم بنفس العمل، من خلال الرسائل والأطاريح الأكاديمية التي تخدم تاريخ المنطقة والتاريخ الوطني .
التاريخ المحلي هو جزء من كتابة التاريخ الوطني بشكل عام، ولكن الهدف الأسمى أن يكون التاريخ مكتوبا بأقلام وطنية.
لذلك فإنّ التاريخ المحلي أمر محمود، ولكنه يجب أن يبتعد عن الإيديولوجية السياسية لخدمة أغراض مبيتة، فقط الهدف الاسمى المتوخى خدمة العلم ونشر المعرة لزيادة الوعي، فكلّ مدينة جزائرية تنطق تاريخ الجزائر، فنحن مع التاريخ المحلي، الذي يخدم التاريخ الوطني، يكون فيه البعد الوحدوي حاضرا بقوة، ولا مكان فيه للبعد الانفصالي.