يروي علي عمراني في مؤلفه بعنوان “رحلة في المنطقة السادسة” مع زبيدة ولد قابلية المدعوة صليحة، شهيدة ثورة التحرير، جزء من تاريخ نضال الشهيدة رفيقته في السلاح.
يقول: “في هذا الكتاب أنا لا أروي إلا جزءا من حياة صليحة في الجبال والغابات، مرحلة محددة من مسارها كمحاربة، حيث شاركتها إياها وكنت في قلب الحدث”.
ويضيف:” أنا أروي واحدة من المهمات الكثيرة التي أنجزتها بشجاعة وثبات إلى أن سقطت بمجد في ميدان الشرف، واجب الذاكرة يفرض نفسه ويكون من غير المعقول أن تمر أحداث بطولية في صمت فتكون منذورة للنسيان”.
ويشير الكاتب إلى أنه إلتحق بالكفاح في منتصف جويلية 1958 عين بمركز قيادة الناحية الأولى في المنطقة السادسة تحت قيادة قائد الناحية الملازم زين العابدين غلال.
يقول: “في انتظار تعيين نهائي كنت أطوف في دوار الصوادقية على بعد حوالي عشر كيلومترات من مدنية معسكر دخلت كوخا، كانت المرة الأولى التي أرى فيها جندية. كان عمرها فوق العشرين قليلا وكانت تلبس البزة العسكرية وفي حزامها مسدس “9 ملم” وقنبلة يدوية وكانت تنتعل حذاءا واطئا وعلى رأسها قبعة”.
ويضيف: “كنت مدهوشا لمظهرها الواثق ومرآها الوقور، كانت منهمكة حول صندوق أدوية تسجل ملاحظات في دفتر جيب”.
ويقول أيضا أن الشهيدة تأملته طويلا وطرحت عليه جملة من الأسئلة وهي: “مازلت صغيرا على الكفاح، الجبل ملئ بالكمائن التي لا يقدر عليها غر، فأجابها بأنه يبلغ من العمر 18 سنة وسيتعلم، فردت عليه: “حسنا ستقدم لي يد العون.. ستضع جانبا الأدوية المنتهية صلاحيتها”.
وكانت الشهيدة طالبة بجراحة الأسنان بجامعة الجزائر بين 1954و1956 وكانت تنشط في جمعية الطلبة المسلمين، وقد أختيرت لعزمها ورصانتها للمشاركة في شبكات سرية لنقل القنابل بعد إضراب الطلبة سنة 1956 الذي دعا إليه جيش التحرير الوطني.
وقررت الإلتحاق بمدينة معسكر و بعد ذلك بالكفاح المسلح في نفس المنطقة بأوائل شهر جانفي 1957.
تنتمي زبيدة ولد قابلية إلى عائلة تضم ثلاثة أفراد ينشطون بجيش التحرير الوطني، ويشير أن هناك إحتمال أنها انضمت إلى مقاتلي جيش التحرير الوطني بمنطقة معسكر في أوائل جانفي 1957.
شعور بالقيم الإنسانية
شبت الشهيدة منذ نعومة أظافرها على قيم دينية وأخلاقية متينة يدفعها طموح وحزم في مواصلة دراسات عليا تتمتع بشخصية تؤهلها لفرض الإحترام من حولها بما فيه إحترام زملائها الذكور في الدراسة.
كانت تتمتع بذكاء يميزها عن الآخرين فكانت تستغل هذه السمة في شتى الظروف، إذ كانت لها القدرة في إصدار الأحكام المناسبة التي تنم عن نفاذ بصيرة إزاء مواقف في غاية الصعوبة وجعلها تتقبل من طرف رفقائها بكل رصانة وهدوء وثقة.
لكن إذا لاحظت على أحد الرفاق شيئا من الضعف أو صدر منه تصرف غير مسؤول سرعان ما يتطاير من عينييها الشرر وتعاتب بنبرات رجولية وتزجر وكان يكن لها الإحترام والهيبة. ولم تكن تعامل على أنها أدنى قدرا ولم تكن تولى أقل درجة من طرف رفقائها الذكور في الكفاح.
ويوضح عمراني أنه عمل إلى المساء تساعدهم جندية أخرى إلتحقت بالمركز تسمى ثريا، حيث كانوا يضعون الدواء في رزم ملفوفة وعلى كل واحد عنوان مشفر لا يمكن أن يقرأه إلا الدليلون الذين سيسلمونه منها.
كلما كانت التقارير تصل كانت صليحة لا تستقر في مكانها كانت تطلب توضيحات من المجاهدين الذين شاركوا في الهجومات ثم تناقش مسؤولي القيادة وتعلق على الأحداث، كانت تتابع بشغف واهتمام الحوادث التي تهز الوطن . كانت تمارس دورها بكفاءة وإخلاص وشعور حاد بالقيم الإنسانية.
ويروي الكاتب أن المعلومات التي جمعتها “مصلحة المخابرات العامة للعمالة “SDRG” بمعسكر والتي وضعت كملحق تقدمها كالتالي:
“ناشطة ضمن جبهة التحرير الوطني أصدر في حقها قرارا بالبحث والمتابعة من طرف “المصلحة الجهوية للشرطة القضائية”لـS.R.P للجزائر لإنضمامها إلى شبكة مساندة للإرهابيين” أي لجبهة التحرير الوطني.
كلفت صليحة بالمصلحة الصحية في جيش التحرير الوطني قبلت بمهمة صعبة وخطيرة ألا وهي نقل كمية معتبرة من الأدوية خاصة المورفين والإبر إلى مستشفى جيش التحرير وكان يتوجب عليها من أجل إنقاذ الجرحى وحياتهم أن تحرص على نجاتها أولا. لكن الطريق كان طويلا ووعرا مليئا بالعقبات .
كان عليها أن تواجه الوحدات الخاصة للعقيد بيجار الذي كان يحكم المنطقة، وكان هذا الأخير يتقن طرقا وأساليب غادرة تم جمعها في حرب الفيتنام حتى أنه ابتكر عملية كانت تتمثل في إرسال مظليين متنكرين في زي مجاهدين إلى الجبل لمباغتة وحدات جيش التحرير الوطني.
كان عليها إيصال الأدوية إلى الدكتور حكيم لكنه لقي حتفه في معركة شهرا قبل وصولها، ورغم الصدمة القوية أخذت تباشر مهمتها بسرعة فراحت تهتم بالجرحى وتبتر رجل هذا ويد ذاك من أجل مداواتهم وإنقاذ حياتهم.
وكلما تنتهي من هذه المهمة كانت تتابع القتال، فقد ذهبت قبيل شهر واحد من استشهادها في زيارة قصيرة إلى أمها وكانت متنكرة في هيئة امرأة ريفية مسكينة، قالت لها أمها:” يحكى أن فتيات كثيرات من المقاومة قد تم ترحيلهن إلى المغرب ومن ثم ضمهن إلى المنطقة السياسية لجيش التحرير الوطني”.
فردت عليها قائلة:” يا أمي لم أذهب للمقاومة لأكون في المغرب، أفضل الموت والوقوع في حفرة سحيقة”.
بعد يوم من وفاتها استدعى رئيس المركز العسكري لمنطقة معسكر الأب ولد قابلية ليقول له:” يؤسفني أن أخبركم بوفاة ابنتكم زبيدة المسماة صليحة، لقد فوجئت معية فريقها والسلاح بيدها، رفضت أن تسلم نفسها وأطلقت النار على رجالنا فقتلوها”.
على بطاقة الإستعلامات التابعة لمصلحة المخابرات العامة لمنطقة معسكر وضعت الملاحظة التالية: “يطوى الملف، قتلت المعنية بالأمر في زيها العسكري والسلاح بيدها في ليلة ما بين 19 و20 من شهر سبتمبر 1958 على بعد 7 كم، شمال غرب معسكر.
يحفظ الملف رقم 3563 للمتابعة.(أفراد اخرون من أل ولد قابلية).
استشهدت صليحة أول جامعية جزائرية في الميدان داخل الغابة والسلاح بيدها بعد نصب كمين لها في نقطة عبور قرب الطريق الوطني معسكر- وهران، ويقول رفيق دربها: “كانت حزينة مؤلمة تلك الليلة التي غادرتنا فيها إلى الأبد في سفرها الأخير، لقد أتاحت لي معرفة واحدة من أكبر مقاومات مدينة معسكر بمزايا لا يشوبها نقص”.
ويضيف: “عرفت إيمانها، شجاعتها، ثباتها وصبرها، حزمها وإقتناعها، تواضعها وكرمها”.