نشرت مجلة “تيموانياج كريتيان المسيحية Témoignage Chrétienne”حديثا لأربعة ضباط فرنسيين كان له دوي هائل في الرأي العام، وقد نشرت جريدة المجاهد بتاريخ 11 جانفي 1960 في الصفحة 04 واتبع المقال في الصفحة الثامنة فقرات من هذا الحديث دون أن تعقب على ذلك بأي ملاحظة أو تعليق.
الضباط الفرنسيون يعترفون بعجزهم عن قهر الشعب الجزائري
المحرر: نعتزم أن نجري معا استعراضا للمشاكل التي تثيرها مواصلة الحرب في الجزائر، وسؤالنا الأول يتعلق كما تتوقعون بالإشكال التي تكتسيها التهدئة فما هي تجربتكم في هذا الميدان؟.
- لقد وقع في كل أنحاء القطر الجزائري على ما أظن اتباع طريقة استثمار الإرشادات وذلك بإنشاء فصيلة، الأعمال الوقائية، التي هي ليست سوى كوكبات متنقلة من الجنود مهمتها استنطاق الأهالي، وهي مركبة من أناس يرتدون أزياء صفراء وفي بعض الأحيان سوداء، وفي ذلك ما يثير في الأنفس بعض الذكريات ولا نعرف عن هويتهم شيئا سوى أنهم جنودا لا يعلم أحد مأموريتهم بالضبط، ونظرا لنوع المهمة الملقاة على عاتقهم فقد وقع الاحجام فيما يظهر عن ترسيمهم في إطارات الجيش وسلم الارقاء.
- لا يجهل أحد في اعتقادي وجود أعمال التعذيب بالجيش حيث تجرى أمور يندى منها الجبين فهنالك من يقبلها عن روية بل يلجأ إلى استعمالها بدعوى أنها ناجعة وذات نتيجة إذ العبرة من إستعمال وسائل التعذيب هي قبل كل شيء الوصول بسرعة إلى النتيجة. وهناك آخرون إذ يتورعون عن مباشرتها بأنفسهم فهم يغضون الطرف عن غيرهم، حيث يعلمون أنها وسائل متعبة ولا يقدرون حسب دعواهم على كشفها حيث أنهم يعلمون علم اليقين أن مناهضتهم لمثل هذه الوسائل لا تجدي نفعا وفي اعتقادي-وفيما سأقول شيء من الخطورة – أن مجموعة الجيش بالجزائر مسؤولة عما يجري بها من تعذيب.
- وبعد أن ذكر الضابط (ن) شهادة أحد زملائه الذي اعترف بأنه استعمل الماء والكهرباء ضد عدد من الموقوفين أشار الضابط (ب) إلى أن التعذيب واستعمال وسائل العنف إذا كان الضباط الاعلون يأمرون بها من دونهم من ذوى الرتب الصغيرة فإنهم لا يعطون هذه الأوامر كتابيا وقال الضابط (ص) أن التعذيب صار أمرا عاديا إلى درجة أنه أصبح موضوع مداعبة بين الضباط أنفسهم إذ يقولون في هذا الشأن لبعضهم البعض :”سنستعمل معك وسائل القسوة والشدة وسوف تعترف قطعا أنك تجمع الأموال لجبهة التحرير الوطني..
أن إستعمال وسائل العنف ومباشرة التعذيب وإتيان المنكر قد أحدث تأثيرا سيئا على بعض الجنود وحتى على الضباط.
كثيرا ما شاهدنا أثناء العمليات الحربية الجنود النظاميين الفرنسيين يقومون بجمع طيور الدجاج وبصفة أوضح بملاحقة النسوة حتى يفضى بهم الأمر إذا لم يقع ردعهم عن غيهم إلى إضرام النار بمحلات السكنى.
المحرر: هل ترون أن كافة الأمة الإسلامية بالجزائر تشارك في المقاومة السياسية التي تقوم بها جبهة التحرير الوطني؟.
- فيما يتعلق بإحساسات الشعب الجزائري لي أن أصرح 95 في المائة من الأمة الجزائرية تقريبا هم ضدنا سواء بصفة فعلية أو بصفة ضمنية، والشعب الجزائري هو بالطبع مضاد للإستعمار أعني أن المسلمين يبغضون المعمرين الفرنسيين ولهم مع الأسف الحق في ذلك.
المحرر: ماذا تعنون هنا بلفظة معمرين؟ هل أصحاب الضيعات أم الأوروبيين بوجه عام؟.
- كل الأوروبيين بالجزائر مع الأسف أن حرب الثورة قائمة على قدم وساق بالجزائر، حيث أن الشعب كله ضدنا بما فيه النسوة والأطفال فهي حرب بكل ما تقتضيه الكلمة من معنى ومن أجل ذلك نرى الناس كلهم مشتغلين هذا بالتمرد وذاك بمقاومته.
وان اسف لشيء فللعنصرية والتعصب اللذين يتظاهر بهما فرنسيو الجزائر وإن كانوا لا يتحملوا كامل المسؤولية في ذلك فأمام هذا الظلم الصارخ والأعمال المشينة لا يمكن للمسلمين أن لا يكرهوا هؤلاء الناس الذين يعتبرونهم أقل من الحشرات.
هاوية سحيقة
- تلك هي الهاوية السحيقة التي يصعب في نظري بل يستحيل ردمها، اقول ذلك والأسف يملأ جوانحي لكني لا أرى حلا لهذه المشكلة كما لا أرى بوصفي بشرا إمكانية في التقارب من جديد ولا أعتقد – إلا إذا حدثت معجزة أن فرنسي الجزائر سوف يراجعون أنفسهم ليقوموا بمثل هذا الإنقلاب ذلك عرض لا يرتكز على الواقع في شيء إذ أن المشكلة كان في الإمكان حلها منذ زمن بعيد لو لم يكن فيها فرنسيو الجزائر.
إن بالجزائر عددا كبيرا من السكان تبدو عليهم علامات الإستسلام والحال أنهم يمدون جبهة التحرير بالإعانة سواء بواسطة الإشتراكات المالية أو التموين أو إمداد جيش التحرير بالإرشادات ولي عدة أمثلة على ذلك إذ كلنا يعلم أن الجزائريين لا يبخلون عن جيش التحرير بالمال والمؤن والإرشادات فمثلا أن حدث ذات يوم ان انضم لفرقتي احد أعوان جبهة التحرير فقال لي وهو يتأمل من الخريطة العسكرية بعد أن حدثني بكل دقة عن جميع العمليات الحربية التي قام بها رجاله في المنطقة :
“يوم كذا كنتم بجهة كذا وقد قمتم بعمل كذا إذ أن كل الأهالي يمدوننا بالإرشادات “وفعلا لم نقم بكامل جهتنا ولو بعملية واحدة ناجحة واعتقد ان الجيش الفرنسي لم يدرك شيئا في هذا الموضوع.
- إن حرب الجزائر هي حرب ثورية لأن كل حرب تدور للتحرر من الإستعمار إنما هي حرب ثورية، ولهذا أراد قادة هذه الحرب أن يغيروا من وضع الحالة الداخلية، كما أن حرب الجزائر ليست أيضا حرب ثورية بالمعنى الماركسي مثلما كانت حرب فياتمنه ضد فرنسا فالجزائريون يقومون بكفاح وطني، وأن كل الجزائريين بدون استثناء وطنيون ويقال ان العنصرية موجودة بالنسبة للمسلمين.
ولكن هذا ليس صحيحا فمعاملة المسلم للمعمر هي بمثابة معاملة الرجل الفقير للرجل الثري الذي يستغله ومن هنالك يظهر الفارق في نظر الجزائريين بين الجنود النازحين من فرنسا والمعمرين الأوروبيين ويظهر التمييز بين القيادة والباش أغوات من جهة والمعمرين من جهة أخرى.
المحرر: إذا كنت فهمت ما قلتموه لي حتى الآن، فهل يبدو لكم من المستبعد الوصول إلى حل عسكري؟.
- إني استبعد ذلك قطعا فهو أمر مستحيل ولا يمكن التفكير فيه.
قوة جبهة التحرير
إن قوة جبهة التحرير تتمثل في نظامها، و إدراكها للقومية الجزائرية وروح الإتحاد والإنسجام والدين الذي هو رباط خارق للعادة، بيد أن جبهة التحرير ليس لها مذهب ثوري بأتم معنى الكلمة.
- ألا تستطيع الحكومة الفرنسية أن تحاول تشييد جزائر جديدة بالرغم من متطرفي الجانبين، وبعزل المقاتلين الجزائريين داخل الأمة؟ فحسب مذهب “ملوتسيتونغ” الخاص بحرب العصابات يجب أن يعيش المقاتل بالجبال مثل السمك وسط الماء، وإذا صرف الماء مات السمك.
ولكن المشكلة بالذات هو عدم القدرة على سحب الماء! فإلى حد الآن مازال الجزائريون مقتنعون بعدالة جهاد جيش التحرير الجزائري.- إن بناء جزائر جديدة يبدو لي من المستحيل بدون جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ويوجد عدد كبير من الضباط ذوي الخبرة قد ضاقت نفسهم من الحروب التي يواصلونها منذ سنة 1945 بالهند الصينية والجزائر وهم مستعدون استعدادا تاما لقبول توقيف النار ولكن مع ذلك كله توجد مشكلة الشروط التي تفرض نفسها وهذه المشكلة تتمثل في المحافظة على الشرف.
المحرر: لنبدأ الآن في سلسلة أخرى من الأسئلة ألم يكن رئيس الجمهورية هو الذي قال لنا أن مليونا وأربعمائة ألف شاب قد مروا بالجزائر فما هي في رأيكم الآثار النفسية والأدبية والسياسية التي انطبعت في نفوسهم من جراء الحرب؟.
إن الآثار النفسية والأدبية تبدو واضحة لا غبار عليها، فإن كل الجنود يتعلمون في كل الحروب، أن يصبحوا يتانرون أمام الآلام والموت ويتعلمون النهب والتخريب والقتل، وعدم إحترام الحياة البشرية، وعدم إحترام أنفسهم أن الشئ المهم في الحرب هو الحرص على عدم الإضمحلال والتشبث بالقوة.
- إن أهم مظهر جديد للحرب الجزائرية هو في نظري المظهر الأتي :تسخير النظام العسكري بأجهزته في سبيل خدمة سياسة معينة :الجزائر الفرنسية أو الإدماج وهذا ما يزيد في تغلغل الفاشيستية بالضمائر. ومنذ الوقت الذي قبل فيه الحكم السياسي بفرنسا أن يجعل من الجيش الفرنسي بالجزائر آلة للدعاية السياسية فإن هذا الجيش أصبح يميل إلى أن يكون نوعا من الأحزاب السياسية الكبيرة المستبدة وان لم يشعر بذلك بعض إطاراته حتى الآن.
الجيش والسياسة
- أعتقد أنه يجب الذهاب إلى أبعد من ذلك، فإن بعض الإطارات العسكرية الميالية إلى الفاشيستية ترى أن للجيش رسالة سياسية في المستقبل لا تشمل المحافظة على الجزائر فرنسية فقط بل تتعدى على إعادة قوة الشباب إلى فرنسا وجعلها قادرة على الدفاع ضد الفتن والفوضى، وتميل هذه الإطارات كذلك إلى الإعتقاد بأن كل فكرة تخالف فكرتهم إنما هي فكرة فوضوية لا جدوى فيها، والأعمال تشهد في هذا الباب أكثر من الخطب الطويلة.
- صحيح أن هناك خطرا ولكن لا ينبغي المبالغة فيه أن كل التعليمات السياسية التي يتلقاها الجيش من مختلف درجاته من عاصمة الجزائر ليست في رأيي محل عناية واعتبار من طرف قادة الكتائب في أي حال من الأحوال، كما أن دعاية العمل النفساني لم تأخذ مأخذ الجد لأنها كانت حمقى وجارحة.
ومن ناحية أخرى فإن التجربة الشخصية للجندي تبرز له الإستقلال الذي يقوم به المعمرون سواءا إزاء المسلمين أو إزاء الجيش الذي جاء ليدافع عنهم، فالمعمرون مثلا يطالبون الجيش بدفع ثمن الماء الذي يشربونه أو ثمن التبن الذي يضطجعون فوقه، وبعد هذا يشعر الجندي البسيط بأن الإدماج أمر مستحيل، و الإدماج يظهر بمثابة فضيحة عندما يعيش المرء كل يوم مع السكان المسلمين ومع المعمرين، كما أن مختلف رؤساء الوحدات العسكرية لا يجرؤون على الحديث حول الإدماج لأن جهودهم يضحكون عليهم.
- أنا أشاطر رأي ب لقد جرى الحديث كثيرا حول غرس روح الفاشيستية في الشبان وأعتقد أنها توجد بنسبة قليلة لكن أعتقد أيضا أن الأغلبية يمكن وصفها بعدم الشعور الإنساني أو بتدهور الأخلاق وقد شاهدت بعضا منهم خلال الأسابيع الأخيرة يعيشون في يأس وفي وضعية تنافي الأخلاق.
الخوف
المحرر : إن الذي يبدو مدهشا وغريبا في كل هذا هو أنه يمكن جمع مئات الآلاف من الأشخاص وإدخالهم في النظام الذي تملونه دون عناء أو مقاومة؟.
- هناك معارضات ومقاومات وأنتم تعرفون كيف تخفق هذه المعارضات والإمتناعات فإذا لم يقم الشخص برد فعل فمعنى ذلك أن المظهر الخاص لحرب الجزائر هو الخوف، وهذا الخوف لا يمكن أن نتصوره، إن الجزائر أصبحت مسرحا للسكوت والكذب والخوف والإرهاب،
وهناك خوف القسم الثاني من الجيش الذي يخشى الذهاب إلى أماكن الحياة الشاقة الحقيرة إذا هو عارض الفكرة وهناك خوف الضباط الذي يعرف أن عددا من الضباط وقع اضمحلالهم يوم 13 ماي وهناك خوف الجميع من الإفصاح عما يكنونه في أعماق قلوبهم وعلى كل فإن البلاد كانت ومازالت تحتوي على عدد من الأوروبين الأحرار إذ ليس لدى عبارة أخرى أصفهم بها فعلا نراهم لا ينسبون ببنت شفة وأشير هنا إلى المثل الذي حذى حذوه دي غول عندما صدع برأيه في تكوين حزب تقدمي فلا وجود لجزائري حر واحد خطر بباله أن ينتهج من جديد منهج دي غول.
* ليس لنا أن ننسى نوعا ثانيا من أنواع الخوف وهو أن عددا من سامي الضباط الذين يعرفون المظاهر البشعة التي اكتستها حرب الجزائر يخافون من أن تنتهي هذه الحرب في يوم ما وتبرز هذه المظاهر إلى العالم عارية لا غبار عليها وفي ذلك ما يمنعهم من النظر بإرتياح إلى فكرة التصفية السلمية فيجرهم التيار إلى التفكير في تحطيم العدو تحطيما كاملا لا يمكنه بعده الكلام وبث الشكوى.
- نعم أن في ذلك شيئا من الملاحظة التي أبداها سان برتيملي عندما قال :”لنقتلهم جميعا “.
حاول رجال الكنيسة العسكريون أن يسنوا قانونا لحرب الجزائر وان يقروا مبادئ لما قد تمكن تسميته بالحرب النظيفة لكن بما ان هذه الحرب قذرة من طبيعتها ولو حاول الشاب أن لا يلطخ يديه بتجنبه الأعمال التي تدخل تحت طائلة القانون من حرق المداشر وقتل الضحايا المدنيين والإجهاز على المجاريح واستعمال وسائل التعذيب فإنه يعلم أن ضميره غير طاهر لأنه يشارك في اقتراف تلكم الآثام ولو بصفة غير مباشرة.
إذ ليس في إمكانه ردع أقرانه وصدهم عن إقترافها فله حينئذ أن يختار بين أمرين اثنين إما أن يبقى بمعزل عن ضميره ويتنكر لنفسه وإما أن يصمد أمام الطغيان فيحطمه.
جريدة المجاهد الصادرة يوم 11 جانفي 1960 صفحة 4 و8